معالم التخطيط الخطابي السليم (1-2)

 قبل أن تبدأ -أيها الخطيب- في وضع استراتيجية خطابية لمجتمع ما، لا بد أن تتعرف على ذلك المجتمع وتدرس احتياجاته وأحواله وظروفه، وبدون ذلك لن يكون تخطيطك سليمًا مهما بذلت فيه من جهد ووقت؛ إذ أن حالك ساعتها كحال من خاط ثوبًا لشخص لم يره ولم يعرف مقاييس جسده من طول وعرض؛ فإنه مهما أتقن الثوب وحياكته فلا فائدة منه لمن خاطه من أجله إن كان الثوب طويلًا واسعًا فضفاضًا وهو نحيف قصير، أو العكس!

لا يخفى على عاقل أن العالم اليوم يقوم على التخطيط في كل صغيرة وكبيرة، وأن الجميع قد أدرك أهمية وضع خطط استراتيجية دقيقة مدروسة لكل شأن من الشئون.
والأولى والأحرى والأحوج لأن يخطط ويضع الاستراتيجيات هم العاملون للإسلام، القائمون على أمر الدعوة إليه، وإن من التقصير القبيح ألا يسير الدعاة والخطباء وفق خطة محددة المعالم، وبناءً على استراتيجية مدروسة بعناية.
وإني لا أرى للمسلمين نهضة ولا قومة ولا رفعة ولا عزة في عصرنا هذا إلا بتخطيط رشيد واستراتيجية واضحة، وإن أحق الناس بالأخذ بزمام المبادرة في ذلك هم الدعاة والخطباء؛ فقد كانوا في كل عصر قادة كل نهضة ومشعل كل جذوة ورواد كل حضارة.
ومما يحتم هذا التخطيط الاستراتيجي للخطباء والدعاة والعاملين للإسلام ويجعله "مسألة حياة أو موت" أن أعداء الإسلام لا ينفكون يخططون ويدبرون وينفذون في دقة ومثابرة، متدرعين بالتنظيم الشديد والتمويل الضخم الكبير إلى جانب الخطط المحكمة المدروسة، فذلك كله يوجب على العاملين للإسلام أن يقابلوا التخطيط بتخطيط والتدبير بتدبير، وإلا فسد الأمر وانفرط العقد وتفوق أعداء الإسلام وتفرَّدوا! (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) [الأنفال: 73].
لذا فإننا نحاول في الصفحات التالية تقديم معالم واضحة للتخطيط الخطابي السليم، علها تنير طريقًا للسالكين طريق الخطابة خاصة والدعوة إلى الله عامة، وعلها تكون لبنة صالحة في بناء استراتيجية كاملة شاملة للنسق الدعوي والخطابي الإسلامي.
المعلم الأول: التقييم الدقيق لحالة المجتمع الحالية:
قبل أن تبدأ -أيها الخطيب- في وضع خطة واستراتيجية خطابية لمجتمع ما، لا بد أن تتعرف على ذلك المجتمع وتدرس احتياجاته وأحواله وظروفه أولًا، وبدون ذلك لن يكون تخطيطك سليمًا ولا صحيحًا ولا دقيقًا ولا ذا فائدة أبدًا، مهما بذلت فيه من جهد ووقت ومال؛ إذ أن حالك ساعتها كحال من خاط ثوبًا لشخص لم يره ولم يعرف مقاييس جسده من طول وعرض وسمن ونحافة، فإنه مهما أتقن الثوب وحياكته وتزينه ومهما صنعه من أجود الأقمشة وأثمنها، فلا قيمة له عند من خاطه له إن كان الثوب طويلًا كبيرًا واسعًا فضفاضًا وهو نحيف قصير، أو العكس!
وعليه: يجب أن تتعرف من قرب على "مقاسات المجتمع" الذي ستضع له الخطة الاستراتيجية قبل الشروع أصلًا في وضعها؛ لتأتي مناسبة وملائمة له، وذلك من خلال سبر غور المجتمع ودراسته دراسة متعمقة لمعرفة حقيقة حالته واحتياجاته، ولإدراك آفاته وعاهاته وعلله وأمراضه، وعدم الاغترار بمظهره الخارجي.
فلا يحكم الخطيب على مجتمع ما بالخروج عن الإسلام -ومن ثَمَّ توجيه النسق الخطابي إليه على أنه مجتمع متمرد على الدين- بسبب وجود أماكن اللهو المحرم وتعددها، فليس وجودها دليلًا ولا برهانًا كافيًا لهذا الحكم؛ فقد تكون هذه الأماكن قد فُتحت لسطوة فئة قليلة متغلبة تسمي نفسها بـ: "النخبة" أو "الصفوة"، أما مرتادوها فهم الحثالة الفاسقة الساقطة في كل مجتمع، في حين أن غالبية المجتمع ترفض وتلفظ تلك الأماكن.
ولا يحكم على مجتمع آخر بالتدين -ومن ثَمَّ توجيه الخطاب إليه على أنه مجتمع متدين محافظ؛ بالأمر بالمعالي كالورع وقيام الليل والاستغفار بالأسحار- لمجرد البذخ في إنشاء المساجد والمبالغة في زخرفتها؛ فنقول: لولا التدين في القلوب ما أُنفقت كل تلك الأموال على المساجد! فقد تكون تلك المساجد -شبيهة القصور- خاوية على عروشها لا يرتادها إلا الشيوخ والعجائز! إلى جانب كونها علامة على جهلهم بصحيح الدين لمبالغتهم في زخرفتها!
ومن الخطأ كذلك أن يقيَّم المجتمع -الذي يراد وضع الخطة الخطابية له- عن طريق مراقبة من يرتادون المسجد في الصلوات الخمس؛ فإن جمهور صلاة الجمعة -في الأغلب الأعم- أكثر عددًا وأشد تنوعًا من رواد المساجد في الصلوات المكتوبة.
فلندع الشكليات والمظاهر، ولنسبر غور المجتمع لنتعرف على حقيقته، ثم نضع التقييم الواقعي الدقيق له والذي يشكل ركيزة أساسية لوضع الخطة الخطابية المناسبة لذلك المجتمع.
وغالبًا لا يخرج تقييم المجتمعات عن أحد الأصناف التالية:
الصنف الأول: مجتمع متفلت من أحكام الدين، متمرد عليها، تحارَب فيه تعاليم الإسلام وشعائره، تغلب عليه العلمانية اللادينية أو غيرها من المذاهب الهدامة.
الصنف الثاني: مجتمع جاهل بالدين، تنتشر فيه البدع والمخالفات والتجاوزات، لكن تسوده العاطفة الدينية وإن كانت مشوهة.
الصنف الثالث: مجتمع غير ملتزم بالدين، لكنه متقيد بأخلاق وأعراف وتقاليد معينة، والتي يتعارض بعضها مع أحكام الإسلام، وهو ما يطلق عليه: "مجتمع محافظ".
الصنف الرابع: مجتمع ملتزم بالدين مقيم لحدوده متقيد بأحكامه.
ولكل من هذه المجتمعات ما يلائمها ويوافقها من أساليب وموضوعات واستراتيجيات خطابية ووسائل دعوية.
فالخطوة الأولى لوضع خطة خطابية مناسبة لمجتمع ما، هي: إدراجه تحت أحد الأصناف السابقة أو غيرها.
المعلم الثاني: الخبرة بخصائص المجتمعات:
فبعد تصنيف المجتمع تحت أيٍ من التصنيفات السابقة، يبقى أن نضع الأيدي على خصائص ذلك المجتمع، فنحصر مميزاته وعيوبه وعاداته وتقاليده وشيمه ومفاخره وقِيَمه ومُثُله ومبادئه، ثم نحسن توظيف واستغلال ومراعاة كل ذلك عند وضع الخطة الخطابية المناسبة لذلك المجتمع.
تمامًا كما كان يصنع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "إنك ستأتي قومًا من أهل الكتاب"([1])، قال ابن دقيق العيد حول قوله -صلى الله عليه وسلم-: (ستأتي قوما أهل كتاب) هي "للتوطئة والتمهيد للوصية باستجماع همته في الدعاء لهم؛ فإن أهل الكتاب أهل علم، ومخاطبتهم لا تكون كمخاطبة جهال المشركين، وعبدة الأوثان في العناية بها"([2]) كذلك فلأنهم أهل علم فعندهم حجج وبراهين يجادلون بها، فنبهه بأنهم "أهل كتاب" ليتجهز لرد شبههم.
وكذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- عن مصر: "إنكم ستفتحون مصر -وهي أرض يسمى فيها القيراط- فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحمًا"([3]) وغيرها من المواقف، تنبؤك عن إحاطته -صلى الله عليه وسلم- بوضعيات المجتمعات من حوله وبخصائص كل منها.
وكذلك ما جرى في سياق صلح الحديبية؛ لما قال رجل من بني كنانة لقريش: "دعوني آتيه، فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها له"، فبعثت له، واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدُّوا عن البيت، فلما رجع إلى أصحابه، قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت" ([4]).
فقد أدرك -صلى الله عليه وسلم- شيمة من شيم القوم؛ وهي: تعظيمهم للبدن، وقد أحسن -صلى الله عليه وسلم- استغلال ذلك واستثماره.
ومما يعين على اكتمال الوعي بخصائص المجتمع: توافر الإحصائيات الدقيقة للحي الذي يقع فيه المسجد، وتتضمن هذه الإحصائيات درجة الثقافة والتعليم، والمكانة الاجتماعية والوظيفية، والحالة المادية من فقر وثراء
المعلم الثالث: النظرة الفاحصة لأفراد المخاطبين:
فما قلناه في المعلم الأول عن النظرة الفاحصة للمجتمعات ككل، نقوله هنا عن أفراد تلك المجتمعات إذ كل فرد نسيج وحده، والفرد هو وحدة بناء أي مجتمع.
وهذا قدوة الخطباء -صلى الله عليه وسلم- كان يسبر غور كل فرد يعيش معه، ويدرك حقيقة أمره ومواهبه وعيوبه ويحسن استغلال ذلك، فعن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسـلم- قال: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم علي بن أبي طالب، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، ألا وإن لكل أمة أمينًا، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح"([5]).
ولقد وضع النبي -صلى الله عليه وسلم- كلًا ممن صنَّفهم في هذا الحديث في موضعه المناسب لمواهبه، فعامل -صلى الله عليه وسلم- عثمان بمقتضى حيائه الذي لمسه فيه؛ فكان -صلى الله عليه وسلم- يستحي منه ما لا يستحي من سواه، فلما تعجبت من ذلك عائشة قائلة: "دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك!" أجابها: "ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة"([6])، ولما كان "أعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل"، بعثه -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن داعيًا ومعلمًا لهم، ولما علم النبي -صلى الله عليه وسلم- "إن أبا سفيان رجل يحب الفخر"، أعطاه إياه قائلًا: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن"([7]).
وعن أبي هريرة قال: قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمر على الصدقة، فقيل: منع ابن جميل، وخالد بن الوليد، والعباس عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله، وأما خالد فإنكم تظلمون خالدًا، قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله، وأما العباس فهي عليَّ ومثلها معها"([8])، فمن خلال خبرته -صلى الله عليه وسـلم- بحال الأفراد من حوله أدان الأول، وبرَّأ الثاني، ووضَّح عذر الثالث؛ أنه قد دفعها مقدمًا، فقد جاء في رواية: "قد تعجلنا منه صدقة سنتين"([9]).
وقد كان -صلى الله عليه وسلم- دائمًا ما يصحح نظرة أصحابه إلى الأفراد؛ فعن سهل قال: مر رجل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "ما تقولون في هذا؟" قالوا: حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يستمع، قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين، فقال: "ما تقولون في هذا؟" قالوا: حري إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يستمع، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هذا خير من ملء الأرض مثل هذا"([10])، فالأمر بالجوهر لا بالمظهر.
وهو ما تعلمه عمر الفاروق وعلَّمه الناس، فعن خرشة بن الحر قال: شهد رجل عند عمر بن الخطاب بشهادة فقال له: "لست أعرفك، ولا يضرك ألا أعرفك، ائت بمن يعرفك"، فقال رجل من القوم: أنا أعرفه، قال: "بأي شيء تعرفه؟" قال: بالعدالة والفضل، قال: "فهو جارك الأدنى الذي تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه؟"، قال: لا، قال: "فمعاملك بالدينار والدرهم الذين بهما يستدل على الورع؟" قال: لا، قال: "فرفيقك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟" قال: لا، قال: "لست تعرفه" ثم قال للرجل: "ائت بمن يعرفك"([11]).
وبدون هذه المعرفة الثاقبة للأفراد لن يتمكن الخطيب اختيار من يعاونه في تنفيذ خطته الدعوية والخطابية، بل لن يحسن وضع تلك الخطة من البداية.
المعلم الرابع: حصر الإمكانات المتاحة:
وإنما نستقي هذا من فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد روى حذيفة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اكتبوا لي من تلفظ بالإسلام من الناس" وفي رواية: "أحصوا لي كم يلفظ الإسلام"، قال: فقلنا: يا رسول الله، أتخاف علينا ونحن ما بين الستمائة إلى السبعمائة؟ قال: "إنكم لا تدرون لعلكم أن تبتلوا"، قال: "فابتلينا حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سرًا"([12]).
فقد طلب -صلى الله عليه وسلم- إحصائية بعدد وأسماء كل من دخل في الإسلام وقتها، وما ذلك إلا ليحصر -صلى الله عليه وسلم- ما يملك من إمكانيات، وهل آن الآوان لرد الاعتداء والإذن بالجهاد أم لا؟
فليحصر الخطيب الإمكانيات الدعوية المتاحة له من خطبة جمعة وعدد لقاءات أسبوعية بالجمهور في دروس يومية أو كلمات، ويحصر: كم من المال الدعوي يمتلك ليوظِّفه في تهيئة المسجد وجعله مصدر جذب للناس، كم من رواد المسجد يقف في ظهره ويؤازره؛ فإذا حصر الخطيب الإمكانيات المتاحة استطاع أن يضع خطة استراتيجية خطابية واقعية قابلة للتنفيذ، وليس نموذجية مثالية يصعب تنفيذها.
المعلم الخامس: التنبؤ بالعقبات المتوقعة وإعداد العدة لمواجهتها:
فسنة الله -عز وجل- تقول: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) [الفرقان:31]، وقد قالها ورقة بن نوفل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي"([13])، فهي قاعدة عامة تقول: "لكل مصلح أعداء يعرقلونه".
وفي حديث حذيفة السابق أنهم قالوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أتخاف علينا ونحن ما بين الستمائة إلى السبعمائة؟ قال: "إنكم لا تدرون لعلكم أن تبتلوا"، قال: "فابتلينا حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سرًا"، وفي لفظ: "حتى إن الرجل ليصلي وحده وهو خائف"([14])، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يدرك أنه لا بد من أن تصيبهم الابتلاءات وتعاديهم فئة من الناس ويضعون لهم العوائق.
وقد وعى حذيفة ذلك الدرس جيدًا، واحترز هو الآخر من العقبات المستقبلية مسترشدًا النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يفعل حيالها، يروي هو فيقول: كان الناس يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: "نعم" قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: "نعم، وفيه دخن" قلت: وما دخنه؟ قال: "قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر" قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: "نعم، دعاة إلى أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها" قلت: يا رسول الله، صفهم لنا؟ فقال: "هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا" قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم"، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال "فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك"([15]).
والخطيب "الحق" أحد المصلحين، لذا فإنه لاقٍ -لا محالة- العنت والمشقة والعداوة من بعض جمهور مسجده، فعليه -بداية- أن يتهيأ نفسيًا لذلك، ثم أن يراعي في وضعه لخطته ما سيعترضه من عقبات مُعِدًا لها العدة.
وأول أعداء للخطيب هم أصحاب المصالح -غير المشروعة- الذين يضر بهم خطاب الخطيب، فهذا أحد الخطباء تكلم عن حرمة التدخين وأن "الله إذا حرم شيئًا حرم ثمنه"([16])، وأن المتاجرة في "السجائر" وأمثالها حرام وربحها خبيث، فجاءه -بعد خطبته- أحد من يتاجرون فيها فقرعه ووبخه بل وكاد له من خلفه وشكاه زورًا وبهتانًا.
ومما يدلل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان مستعدًا للعوائق حاسبًا لها حسابها ومتجهزًا بطرق التغلب عليها عالمًا أنها من سنن الله -تعالى-، ما رواه خباب بن الأرت، قائلًا: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو متوسد بردة، وهو في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: يا رسول الله، ألا تدعو الله! فقعد وهو محمر وجهه، فقال: "لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد، ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه، فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، ما يخاف إلا الله"([17ٍٍ]).
وكذا ما رواه عدي بن حاتم قائلًا: بينا أنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: "يا عدي، هل رأيت الحيرة؟" قلت: لم أرها، وقد أنبئت عنها، قال: "فإن طالت بك حياة، لترين الظعينة ترتحل من الحيرة، حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدًا إلا الله ([18]).
فكان ما أعده النبي -صلى الله عليه وسلم- لملاقاة هذه العقبات هو الثقة في نصر الله -تعالى-، ولئن كان ما ذكره -صلى الله عليه وسلم- هنا هو من الغيبيات، فتبقى لنا القواعد الراسخات الثابتات التي تقول: (وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات:173]، وتقول: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف:128]، وأنه -تعالى- لا يضيع نتيجة عمل أخذ صاحبه بأسباب نجاحه.
 ..................................
([1]) البخاري (4347)، ومسلم (19).
([2]) إحكام الإحكام لابن دقيق العيد (1/375)، الناشر: مطبعة السنة المحمدية.
([3]) مسلم (2543).
([4]) البخاري (2731).
([5]) ابن ماجه ()، والترمذي ()، وصححه الألباني (الصحيحة: 1224).
([6]) مسلم (2401).
([7]) مسلم (1780).
([8]) البخاري (1468)، ومسلم (983).
([9]) الأموال لابن زنجويه (2207)، والأموال للقاسم بن سلام (1885)، وحسنه الألباني (إرواء الغليل: 857).
([10]) البخاري (5091).
([11]) المخلصيات (1/473)، الناشر: وزارة الأوقاف بدولة قطر، الطبعة الأولى 1429هـ، والكفاية للخطيب البغدادي (1/83)، المكتبة العلمية، المدينة المنورة.
 ([12])البخاري (149)، ومسلم (3060).
 ([13])البخاري (3)، ومسلم (160).
 ([14])البخاري (149)، ومسلم (3060).
 ([15])البخاري (3606)، ومسلم (1847).
 ([16])ابن حبان (4938)، وأحمد (2678)، وصححه الألباني (التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان: 4917).
 ([17])البخاري (3852).
 ([18])البخاري (3595).

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.