خطبة الجمعة واستراتيجيّة بناء التميّز الحضاري تنظيرًا وتطبيقًا ( 1/2 )

 أوّلاً: الجانب النظري:

لا يختلف اثنان في أنَّ اعتمادَ الخطيبِ أسلوب التخطيط الاستراتيجي في صياغةِ خطبِهِ وبناءِ مِشوارِه الخطابِي أقدرُ بكثيرٍ جدًّا على تحقيق التقويم وتنفيذ الرسالات والأهداف من أسلوب التخبّط والعشوائيّة والارتجاليّة في الإرشادِ والتوجيه. وأحوجُ الرسائل إلى اعتمادِ أسلوب التخطيط الاستراتيجي في الخُطب " رسالة بناء التميّز الحضاري للأمّة "، فهي مشروعٌ جليلٌ ثقيلٌ فرضُ عينٍ على الخطيبِ لا يجوزُ له التقصيرُ فيه ولا التفريطُ في أسبابه.
من حيثُ المبدأِ كلُّ الخطباءِ يُقِرُّون بوجوبِ القيامِ بتحقيقِ هذا الفرضِ في واقعِ الأمّة، ويسعَونَ جاهدين لتحقيقِهِ بكلِ ما أوتُوا من وسائل وأوقات وجهود، ولكن على مستوى التطبيق: يظهر الفرق جليًّا بين من يخطّط ومن يرتجِل.     
في ما يلي نموذجان لبيان الفرق بين خطيب ينطلق في رؤيتِهِ ومنهج تغييره عبرَ خطبة الجمعة من استراتيجيّة شاملة متكاملة تبني بمجموع مفرداتِها وإجراءاتِها ومقاييسها " فريضَةَ التميّز الحضاري والثقافي " في الأمّة عقيدةً وشريعةً وفكرًا وأخلاقًا ومنهجَ حياة، وخطيبٍ يدقُّ في تناوُلِهِ الخطابي على نقاطٍ متناثِرَةٍ غير منسجِمَةٍ ولا متكامِلَة ولا منتَظَمة، ولا تقوى بمجموعها – خاصّةً في ظِلّ الدعوات الموازية – على بناء تميُّزٍ حضاريٍّ للأمّة:
النموذج الأوّل: الاحتفال بالكريسماس وعيد رأسِ السّنَةِ الميلاديّة:
    مثل كلّ سنةٍ يقتربُ فيها موعدُ احتفال النصارى بعيد الميلاد وعيد رأس السنة الميلاديّة " يتسابقُ " و" يستعِدُّ " كثيرٌ من الخطباء للحديثِ عن هذا الموضُوعِ، ويبحثون عن خُطب جُمعةٍ تبيّنُ حُكمَهُ الشرعي ومظاهره وتحذّرُ الناسَ منه، وهذا الحديثُ محمودٌ مطلوب
  ولكن: هل هذا الموضُوعُ يا تُرى تكفي فيه جُمُعَةٌ أو جُمُعتان ؟!، وهل يُمكنُ أن يُحدِثَ التغيير المطلوب " معلومات " و" أوامِر وتحذيرات " يُلقيها الخطيبُ على أسماعِ أقوامٍ تعوَّدُوا الاحتفال بهذا العيد ودَرَجوا عليه ؟!.
هل يكفي يا تُرَى أن يقولَ الخطيبُ مرَّةً في العام قبل الحادثة بأيّام:
 أيها الإخوةُ في الله:     الكريسماس: " Christmas ": وهي تعني " ميلاد المسيح "،   أو "قُدَّاس المسيح "، وهي مكوَّنة من كلمتين " Christ "، وتعني ( المخلِّص )، وهو لقبٌ للمسيح – عليه السلام – عندهم، و"mas"، وهي معناها ( ميلاد).
      وممّا ينبغي أن يُعلمَ أنَّهُ من غير المعروف على وجهِ الدقَّة تاريخُ ميلاد المسيح عليه السلام، فقد اختلف النصارى بجميع طوائفهم في ذلك؛ فهو عند الكاثوليك والبروتستانت ( في 25 ديسمبر ) وعند نصارى الشرق الأرثوذكس في (7 جانفي )، فانظُروا – معشر المؤمنين- إلى هذا التناقض بينهم في تحديد التاريخ!. 
    والاحتفال بالكريسماس: لا أصل له لا في الإسلام ولا في دين المسيح عليه السلام، إنما أدخلته الوثنية الرومانية في النصرانية !. 
واعلموا – معشر المؤمنين – أن من مظاهر هذا الاحتفال الممنوع:
   1 / السفر خارج الوطن للبحث عن ظروف أكثر إغراءً لقضاء ليالي الاحتفالات، أو السفر إلى الفنادق الفخمة داخل الوطن للاحتفال بكل حرّيّة بعيدًا عن مكان الإقامة.
 2 / زخرفة المنازل بالأضواء ( خاصة الأخضر والأحمر ) وأشرطة القماش والأجراس والنجوم وشجرة الصنوبر وموسيقى الميلاد.
3 / السهرات خارج البيت إلى ما بعد منتصف الليل
4 / الألعاب النارية والصّخب والضجيج.
 5 / صناعة الدُّمَى والتماثيل وصناعة الحلويات ( جذع الميلاد buche de noel والكتابة عليها.
6 / صياح الجميع عند دق الساعة على منتصف الليلة الأخيرة من العام الميلادي.
 7 / تبادل الهدايا بهذه المناسبة.
 8 / تبادل الرسائل والبطاقات والتهاني.
كل هذه المظاهر لا تجوز، لأنها من فروع العيد عندهم؛ فصارت من شُعبِ الكفر لذلك والعياذ بالله: قال شيخ الإسلام – ابن تيميّة – رحمه الله- :". . فإن الموافقة في جميع العيد موافقة في الكفر، والموافقة في بعض فروعه موافقة في بعض شُعَبِ الكفر " ( اقتضاء الصراط المستقيم 1/ 528) ].
لا شكّ أنَّ هذا الكلامَ من الخطيبِ مشكورٌ ومبارك، ولكنّهُ لا يكفي لإحداثِ " نقلةٍ حضاريّة " في مجتمعٍ مفتوحٍ على جميع الدّعواتِ والبرامجِ والمخطّطات التي يُشرِفُ عليها خُبراء في الهدم و تعملُ ليلَ نهار !. 
 لا شكّ أنّ هذه الخطبةَ لا تكفي لإحداثِ التغيير المطلوب !، لماذا؛ لأنَّ هذا الكلامَ لا يعملُ إلا على خطٍّ واحدٍ فقط وهو خط " الإعلام " بوجود الخلل وضرورة إحداث التغيير، وهذا لا يكفي أبدًا !، فقد غابَ عن الخطيب الذي لا يعمل وفق خطّة استراتيجيّة متكاملة أنّ هذا " الخلل والمرض والانحراف" قد تضخَّمَ في العقول والنفوس والأوضاع حتّى صارَ " ثقافةً " اجتماعيّة !، فهم لا يتركونهُ لمجرّد معلومات أو أوامِر وزواجِر بمفردِها. غابَ عنهُ أنّ هذا الخلل والمرضَ والانحراف ليسَ ممارسةً معزولةً حملَ عليها الإعجابُ بالقومِ فحسب، لا؛ بل هو في الحقيقةِ " تراكُماتٌ " عميقةٌ عقديّةٌ ونفسيّةٌ وفكريّةٌ وتربويّة بل ومنهجيّة حضاريّة تضخّمت مع السنين حتَى أفرزت ما نراهُ الآن !.
على الخطيبِ أن يعيَ – ونحن نتحدّث عن هذا النموذج – أنَّهُ يحتاجُ على الصحيح في علاج هذا الخلل العميق إلى اعتماد استراتيجيّة خُطَب شاملة متكاملة الإجراءات والخطوات والمقاييس، تنتهي بإحلال عقيدةٍ مكان عقيدة، وشريعةٍ مكان شريعة، وثقافةٍ مكان ثقافة، ومنهج حياةٍ منبثقة من التوحيد والإيمان بدل منهج حياةٍ لا يعرفُها الإسلام !. وهذا المشروعُ يحوي بدون شك عشراتِ الخطبِ بل رُبّما مئات، تَبني كلُّها في المستمِعِين والجيل وتُعزّزُ فيهم " فريضة التميّز الحضاري " ولو بعد حين !.   
النموذج الثاني: قيمَةُ الحرّيّة:
هل يا تُرى هذه القيمةُ الغالية النفيسَة تكفي فيها جُمُعَةٌ أو جُمُعتان ؟!.
هل يكفي أن يقول الخطيبُ مرَّةً في العام أو مرّتين أو ثلاث:
 أيها الإخوةُ في الله: لقد خلق الله الإنسان حراً، وخلق بني آدم أحراراً ليسوا بعبيد، وهذا هو الأصل فيهم، والله – عز وجل – أعطى الإنسان إرادة، ومشيئة، واختياراً، فليس العبد مجبوراً على عمل، وإنما هو حر في اختياره ومشيئته، وبناء على هذه الحرية في الاختيار والمشيئة؛ يحاسبه الله – عز وجل -، فلو كان العبد مكرهاً مجبراً لا حرية له في الاختيار، فإن الله لا يؤاخذه على أفعاله: " إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " ( صحيح الجامع: 1731 ). فإذا فقد العبد حريته في العمل، ومشيئته في الاختيار، فصار مجبراً مكرهاً، لا يؤاخذه الله، فيكون الإكراه عذراً له في هذه الحالة فلا يأثم، وأما ما عمله باختياره، وحريته، ومشيئته، فإن الله – تعالى – يحاسبه عليه، وقد جاء الشرع بتحريم بيع الحر، ومن الكبائر أن يبيع الإنسان حراً فيأكل ثمنه.. .
لا شكّ أنَّ هذا الكلامَ من الخطيبِ مشكورٌ ومبارك، ولكنّهُ لا يكفي ل " ميلادِ جيلِ أحرار ! "..
كلُّ هذا لا يكفي يقينًا بل وأضعافه، ولن يُحقّق شيءٌ من هذا " فريضَة الحريّة " في العقول والنفوس والأوضاع، لماذا ؟!؛ لأنّ قيمةَ الحريّةِ في حياة الإنسان " منظومةٌ شاملةٌ متكاملة " تحتاجُ من الخطيبِ إلى اعتماد استراتيجيّة خُطَب شاملة متكاملة الإجراءات والخطوات والمقاييس، تنتهي بتحقيق المستَمِعينَ والجيل الذي يبنيهِ ويعملُ فيه " فريضَةَ الحريّة " اعتقادًا من الشّركِ والخرافةِ والأوهام والشُّبُهات، وشريعةً من البدعةِ والهوى والتعصّب، وسلوكًا من الشهواتِ والغرائِزِ والمغرِيَاتِ والأطماعِ الخسيسَة، وفكرًا من اليأسِ والخنوعِ والسلبيّةِ والانهزام، ومنهجَ حياة من كلّ ما عُبِدَ من دون الله تعالى زورًا وبُهتانًا كائِنًا ما كان في الحياة.. !.
 تُرَى: كم يحتاجُ هذا المشروعُ الحضاريُّ من الخُطَبُ والأوقاتِ والجهودِ والتجرُّد ؟!
لا شكَّ أنَّهُ يحتاجُ إلى اعتماد استراتيجيّة خُطَب شاملة متكاملة، تنتهي بإحلال فكرٍ مكان فكر ، وضميرٍ مكان ضمير، وثقافةٍ مكان ثقافة، بل إن اقتضَى الأمر " جيلَ أحرار مكان جيلِ عبيد.. " كما قال ربُّنا سبحانه: [ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ] (محمّد: 38) !.
إخواني الخطباء:
ينبغي أن نعلمَ أنَّ الخطيبَ الذي يتكلّمُ ويخطُبُ في مشوارِهِ الخطابي في مفرداتٍ متناثرةٍ بدون خُطّةٍ استراتيجيّة جامعة يُشبِهُ عمَلُهُ هذا عملَ بنّاءٍ يركُمُ في بنائِهِ الحديدَ والرّملَ والاسمنتَ والآجُرَ والخشبَ دونَما خُطّةٍ محتَرَمة، ولا أبعادٍ وقياساتٍ منتظَمة، فهذا البنّاءُ لا أحدَ يملكُ أن يُنكِرَ عليهِ قيمَةَ الحديدِ ولا الآجُرِ ولا الرّملِ على الحيادِ في عمليّةِ البِناء؛ ولكنّهُ يقينًا ما لم يؤلّف بينها وفقَ خُطّةٍ علميّةٍ محترمة، وقياساتٍ وأبعادٍ منتظمة فلن يتحصّلَ إلاّ على بناءٍ هش !.
    أخي الحبيب.. يا أيها الخطيبُ الربّاني:
     انظُر في جُهدِكَ الخطابي بعد عشر سنوات أو عشرين. .؛ فإن لم تجِدْهُ ينسجِمُ مع هذا السّياقِ في الرؤيةِ والرسالة والأداء فيؤسِفُني أن أقول لك: قد قصّرت وفرّطت أخي الحبيب. .. !
هذا وصلّ اللهم وسلّم وبارك على نبيّك محمّد وعلى آله وصحبِهِ والتابعين.
 

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.