الارتجال في الإلقاء

 للارتجال معنيان؛ أوَّلهما – وهو ما أقصده هنا -: إلقاء الخطبة على البداهة، دون إعداد سابق أو تحضير سالف.

ويرى البعض – وهو المعنى الثاني – أن الارتجال هو إلقاء الخطبة من الذاكرة بدون ورقة، مع الإعداد لها مسبقًا، فهو ارتجال الألفاظ لا ارتجال المعاني والأفكار.
وإذا كان الأصل هو أن يُعِدّ الخطيب خطبته، ويحضّرها سلفًا؛ فإنه لا غنى له عن أن يجيد الارتجال ليستطيع الحديث إذا ما دعت للكلام حاجة، بل إن بعض العلماء يرى أن المرء لا يكون جديرًا بأن يكون خطيبًا جيدًا إذا لم يُجِد الارتجال، فيقول الشيخ أبو زهرة: “القدرة على الارتجال ألزم الصفات للخطيب، بل لا يعَد الخطيب – في نظري – في صف الخطباء الممتازين إلا إذا كان من القادرين عليه، الذين لا يفرق الإنسان بين أسلوبهم المرتجَل وأسلوب خطبهم المحضَّرة”.
بعض الأحوال المُلجِئة إلى الارتجال:
والواقع أن هناك أحوالًا ومناسبات يضطر الخطيب فيها إلى الارتجال:
فقد يستدعي المقام من الخطيب أن يغير الموضوع الذي قد أعده وحضّره، لطروء حدث ما.
وقد يفاجأ الخطيب بأنه لابد أن يخطب لغياب الخطيب الأصليّ الذي كان منوطًا به الكلام، أو مدعوًّا للمحاضرة.
وقد يفاجأ الخطيب بعد انتهاء خطبته بالاعتراض والنقد لما طرحه من آراء، وما عرضه من أفكار، فلا مفر له حينئذٍ من التعقيب على منتقديه، وإبطالِ حججهم، والانتصارِ لما يرى أنه الحق وتأييدِه والدفاعِ عنه.
 وقد يفاجأ الخطيب بمن يقاطعه في أثناء خطبته، فيجد نفسه مضطرًا للرد عليه، ثم العودة إلى ما كان يتحدث فيه، فلو لم تكن لديه قدرة على الارتجال وحسن التعامل مع المقاطعة التي قد تُلجئ إلى الخروج عن الموضوع، لَتعلثَم ولأُرْتج عليه، وربما نسي ما كان يتحدث فيه من كلام سابق، أما إذا كانت لديه قدرة على الارتجال، فإنه يستطيع التخلص في ثبات من غير أن ينسى صدر كلامه.
ولذلك استحسنوا من الخطيب أن يكون ذَكورا لأول خطبته إذا اضطُر إلى الارتجال خارج الموضوع لداعٍ يدعو إليه، وأنه يستطيع التعامل مع الطارئ الجديد بما يتناسب معه، دون أن يؤثر هذا على وصْل حديثه اللاحق بكلامه السابق.
قال الجاحظ: وأنشد أبو عبيدة في الخطيب يطُول كلامُه، ويكون ذكورًا لأول خطبته، والذي بنى عليه أمرَه، وإن شغَب شاغِبٌ فقطع عليه كلامه، أو حدث عند ذلك حدثٌ يحتاج فيه إلى تدبيرٍ آخر، وصَل الثاني من كلامه بالأول، حتى لا يكون أحدُ كلاميه أجودَ من الآخر، فأنشد:
وإن أحدثوا شَغْبًا يقطّع نَظْمَها *** فإنك وَصَّال لما قَطع الشغْبُ
ولو كنتَ نسّاجًا سدَدَتَ خَصاصَها *** بقول كطعم الشهد مازَجَه العذْبُ
ومع أننا لا ننصح للخطيب بترك الإعداد والتحضير قدر المستطاع؛ إلا أننا ننصح له بأن يدرّب نفسه على الارتجال، وأن يكون جاهزًا، إذا دعت إليه الضرورة، مع الأخذ في الاعتبار أنه لابد له من سَعة الثقافة والاطلاع، والاستكثار من الحصيلة الأدبية، فما لم يكن الخطيب ذا ثقافة واسعة، وزادٍ علميٍّ وثروةٍ أدبية؛ فلن يفلح في الارتجال، وسيكون مثارًا للاستهانة بقدْره، وإن استطاع أن يستر موقفه عند الضرورة، فلن يستطيع أن يخدم رسالته، ويفيد قضيّته، إذ “المسألة ليست مسألةَ سترِ الموقف أو عدمِ ستره، فالداعية بصدد رسالة ذات أهداف، فهل أصاب أهدافه أم لا؟ وهل حقق المهمة التي يدور عليها الكلام، أو ستر موقفه وسكت؟”.
من هنا كان لا بد للخطيب الداعية أن يتمرن على الارتجال حتى إذا ما اضطر إليه أدّى خير أداء، وحقق الإقناع والاستمالة.
أمور تعين على إجادة الارتجال:
هذا؛ ويتربى الارتجال عند الخطيب – كما يقرر الشيخ أبو زهرة – بما يأتي:
1/بسماع الخطباء المرتجلين الممتازين؛ لأن السماع يحفز من عنده استعداد الكلام إليه، ولأن فكر البشر يتغذى بالتقليد والمحاكاة.
2/وبأن يأخذ نفسه من وقت لآخر بالكلام مرتجلًا، ويغشى الجماعات ويتقدم إلى القول، ليفُكّ عقدة لسانه، ويُزيل حُبْسة الحياء، ويرى موريس آجام أن تمرين مريد الخطابة على الارتجال بأن يتكلم كل صباح في موضوع من الموضوعات لنفسه، ولو ربع ساعة، فيتمرن جَرْسُه وصوته.
3/ومن أمثل الطرق أن يجتهد في أن لا يخطب من ورق، وأن يعرف ملخص ما يقول بعد تحضيره، فإذا دأب على ذلك وواتته فرصة قوية، واستعداد قويم؛ قوِيَ على البداهة من غير تحضير عند الاقتضاء.
4/وعلى مريد الخطابة أن يستنصح رفيقًا له يدله على عيوبه، كما أن عليه أن يراقب نفسه مراقبة تامة، ويأخذ نفسه بالإصلاح، ولا يترك عادة لا تُستحسَن تثبت وتنمو، وعليه أن لا يتقيد بعبارات خاصة، وإلا أثار سخرية الناس ومكّن خصومَه من العبث بسمعته البيانية. أه.
ونضيف إلى هذه الوسائل ما سبق أن أكدنا عليه، وهو ضرورة الإكثار من الاطلاع والاغتراف من بحور الثقافة وروافدها المختلفة، مع تنمية الثروة اللغوية والأدبية، حتى يكون لديه مخزون علميّ ينفق منه، ويُسعِفه إذا قام يخطب مرتجلًا.

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.