تنسيق الخطبة

 وفيه ثلاثة مطالب:

وهو في اللغة: التنظيم والترتيب، وفي الاصطلاح: تنظيم معاني الخطبة وسياق أجزائها وذكر أدلتها، وهو من أعظم أركان البلاغة ووسائل التأثير؛ فإنه بمنزلة تنظيم صفوف الجند، فكما لا نصرة لجيش لم يراع فيه حسن النظام - كذلك لا قوة للخطبة ولا أثر لها إذا لم ترتب ترتيبًا حكيمًا؛ بحيث تكون أبين غرضًا، وأحسن في النفوس وقعًا، وأقسام الخطبة إجمالاً ترجع إلى ثلاثة أشياء: المقدمة، والإثبات، والخاتمة.
المطلب الأول.
في المقدمة
وفيه مباحث:
المقدمة: هي فاتِحة الكلام ومرجع فحواه، ولما كانت بمثابة الأساس من البناء، والرأس من الأعضاء، وجب أن تكون محكمة الوضع، مناسبة مشوقة للسامعين إلى بسط الكلام فيما تشير إليه، فهي خطبة مُجملة.
المبحث الأول.
في حسن الافتتاح:
وهو أن يكون الابتداء لائقًا بموضوع الخطبة، بأن يأتي الخطيب في صدرها بما يدل على المقصود منها، وهو براعة الاستهلال.
قال أبو عثمان الجاحظ، نقلاً عن أبي علي القالي: "وليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك؛ كما أن خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته - كأنه يقول: فرق بين صدر خطبة النكاح، وبين صدر خطبة العيد، وخطبة الصلح - حتى يكون لكلٍّ من ذلك صدر يدل على عجزه، فإنه لا خير في كلام لا يدل على معناه، ولا يشير إلى مغزاه، ولا إلى العمود الذي إليه قصدت، والغرض الذي إليه نزعت".
وجملة الأمر: أن المطلع هو أول ما يستأذن على السمع من الكلام، فإن كان حسنًا رائقًا ظريفًا مناسبًا للموضع؛ أُذِنَ له، وتقبلته النفوس، وتطلعت إلى ما يورده الخطيب بعد، وحثَّها الشوق إلى الآتي بإضافته إلى الماضي، وهذا هو سر حسن الافتتاح.
ويستهجن في الافتتاح أمور:
الأول: الإسهاب والاستطالة بما يمل السامع، منه ما دام في الإيجاز وفاءً بالغرض.
الثاني: أن يكون مبتذلاً مشاعًا، يصلح لكل خطبة.
الثالث: ألا يوافق الموضوع؛ فيكون قلقًا غير ملتئم معه.
وأنواع الافتتاح أربعة: السهل، والجزل، والبدهي، والملوح.
فالسَّهل: ما يبين فيه الموضوع بلا تكلف، ويسمَّى الساذج، وهو أحْرَى بالخُطَب العاديَّة، ومحافل الأدب، ومجالس العظات والتَّشاوُر.
والجَزْل: ما كان أنيق اللفظ، شريف المعنى، يزينه حسن التعبير ورونقه، ويصلح للأحوال الخارقة للعادة، والوقائع الشريفة، والنوازل الهامة، إذ يتوقع الجمهور ما يكشف عن عظام الأمور؛ كقول أبي بكر رضي الله عنه يومَ مَوْتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيُّها النَّاسُ، إنه من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت"، ثم تلا الآية: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ﴾ [آل عمران: 144]، وكقول أبي الحسن الأنباري في افتتاح قصيدته في رثاء الوزير أبي طاهر، لما صَلَبَهُ عضُد الدولة؛ حيث قال:
عُلُوٌّ فِي الحَيَاةِ وَفِي المَمَاتِ ♦♦♦ لَعَمْرِي تِلْكَ إِحْدَى المُعْجِزَاتِ
والبَدَهي: ما أصاب السامع على غير انتظار، وأبرز عن حَميم العواطف والقلوب المتألِّمة، ومقامه الوقائع الباغتة والطوارئ المفجعة.
 
والملوِّح - أو المعرِّض -: في اللغة: خلاف المصرِّح، وفي الاصطلاح: ما يخرج مخرج الكناية والتعريض، ويستعمل في سياسة النفوس النافرة، وترقيق القلوب العاتية المتكبرة الجبارة.
وكثير من خطباء هذا العصر يقلِّد خطباء أوربا في ترك هذه المقدمات رأسًا، مكتفين بمقدمة أجنبيَّة، فيها ثناء أو اعتذار أو تنويه بشأن الموضوع، وهو خروج عن الطريقة المألوفة في الخطابة عند الصدر الأول على ما عرفت.
المبحث الثاني.
في بيان المقصد:
هو أن يظهر الخطيب ما يبني عليه كلامه، بذكر ما سيلقي بعبارة جامعة جلية موجزة؛ لتكون كالعنوان للكتاب.
ولبيان المقصد عند العرب أسماء أخرى، وقد يسمونه بالسِّمَة، وهي عنوان الخطاب، ليكون عند السامع إجمال ما يفصِّله الخطيب بعدُ.
والصفات الملائمة لبيان المقصد ثلاث:
الأولى: أن يكون مترتبًا على قضية واحدة فقط؛ كما لو أردت الكلام على العدل؛ فإنك تقول: إن العدل أساس عمران الممالك - مثلاً.
الثانية: أن يكون واضحًا؛ لأن الغرض إذا كان خفيًّا بعيد المأخذ تبرَّم منه السامع، مثلاً: إذا كان الكلام على حسن الخُلُق قلتَ: "مَنْ حَسُنَ خُلُقُه وجبت محبته، ومَنْ ساء خُلُقُه تنكَّدت معيشته"، أو على شرف العقل قلتَ: "خير المواهب العقل، وشرُّ المصائب الجهل".
الثالثة: أن ينشط السامعين بابتكار صورته ولطيف مخرجه؛ كما تقول في كثرة خطوب الدهر: "الليل والنهار غرسان، يثمران للبرية صنوف البلية"، أو: "زوايا الدنيا مشحونة بالرزايا"، أو التحذير من المعاصي قلتَ: "رأس الحكمة مخافة الله".
المبحث الثالث
في تقسيم الخطاب:
التقسيم في اللغة: مصدر قسمت الشيء إذا جزَّأته، وفي اصطلاح الخطباء: هو تفصيل المقصد ببيان أجزائه بعد ذكره مجملاً، وله فوائد كثيرة منها ما يعود إلى نفس الخطيب من حيث إنه وقاية له من الهذر والخروج عن الموضوع، وتكرار المعاني، ومنها ما يعود على السامعين بتسهيل إدراك الموضوع، وترويح خاطرِهِم فينشطون لِلسماع بالانتقال من قسم إلى آخر، هذا إلى أن التقسيم يفيد الخطبة وضوحًا ويكسوها حسنًا وجمالاً، وصفات التقسيم الحسن أربع:
الأولى: أن تكون القسمة شاملة لكل أجزاء الموضوع لا يخرج عنها جزء من أجزائه.
الثانية: أن تكون الأقسام متباينة لا يدخل بعضها في بعض.
الثالثة: أن تكون واضحة يتلقاها عقل السامع بسهولة فترسخ في ذهنه.
الرابعة: أن تكون مبتكرة موجزة كقول بعضهم في دواعي المحبة: ثلاثة تورث المحبة: الأدب، والتواضع، والدين.
المطلب الثاني
في الإثبات
وفيه مبحثان:
هو في اللغة: التمكين، يقال: أثبت الأمر: جعله مكينًا، وفي الاصطلاح: تأييد القضية بالبرهان، وهو قطب الخطابة وعِمادُها، فإن كان معقولاً متين الدَّعائم، تلقَّاها الناس بالقبول، وإن كان ضعيفًا واهيًا سَقَطَتْ كما يسقط البناءُ القائِم على أساسٍ ضعيف، وهو نوعان:
إيجابِي: وهُو ما اشْتَمَل على تصديق القضيَّة وتعزيزِها بالأدِلَّة الواضحة، والحُجَجِ الدَّامِغة، ويُسمَّى التبيان.
وسلبي: يفند به الخطيب حجج الخصم، ويدحض مقاله، ويسمى التفنيد.
المبحث الأول.
في بيان القضية:
وطريق التبيان معرفة البحث والجدل على ما هو مبسوط في علمي المنطق وآداب البحث وأمرهما هين عليك إلا أن القياس المنطقي يختلف عن القياس الخطابي من وجهين:
الأول: أن المنطقي يتبع اليقينيات، أما الخطابي فيستند إلى المقبولات والمظنونات لكفايتها في الإقناع كما علمت.
الثاني: أن المنطقي عادة لا يتصرف في القياس بخلاف الخطابي، فإنه يتصرف في المقدمات بالتقديم والتأخير على ما يراه أقرب لغايته، وأوفق بمقصوده.
المبحث الثاني.
في التفنيد:
ويسمى أيضًا النقض، وهو في اللغة: التكذيب والتجهيل، وفي الاصطلاح: هو قسم من الخطابة يخطئ به المتكلم رأي خصمه ويرد على حججه، والمطلوب تفنيده في الخطابة أصناف ثلاثة:
الأول: ما يسبق إليه توهم السامع، والأولى أن يفنده الخطيب في صدر خطابه كما لو أراد حمل الجند على الجهاد، فإن توهم الجند الخوف من العدو فلا ينجح كلامه فيهم ما لم يبطل خوفهم منه في مبدأ كلامه ببيان تفوقهم عليه ولو من بعض الوجوه.
الثاني: ما يورده الخطيب على نفسه لكثرة علوقه بأذهان الناس ليبطله، ويبين خطأهم فيه كتفنيد حجج من يتهاون بالمعاصي اتكالاً على حلم الله وكرمه وسعة رحمته، أو من يرجئ التوبة رجاء أن ينيب إلى ربه في آخر حياته.
الثالث: ما يأتي به الدفاع أمام القضاء في المنازعات، وهذه المحاجة تقدم أو تؤخر بحسب مقتضيات الأحوال.
المطلب الثالث:
في الختام:
هو آخر ما ينتهي إلى آذان السامعين من كلام الخطيب، ويسمى حسن الانتهاء وحسن المقطع، وكما يجب التألُّق في المطلع تَجِبُ البراعة في المَقْطُعِ، إذْ هُوَ الأَثَرُ الباقي في نُفُوسِ السَّامعين بعد الإتمام، وآخر ما يتردَّدُ صداه في قلوبِهم، وبه تتم الفائدة، وأحسنه ما آذن بانتهاء الكلام بأن يشير المتكلم في كلامه إلى ما يشعر بانتهاء الغرض المقصود، وأمثلة حسن الختام كثيرة في القرآن الكريم، وخطب البلغاء.
انظر في خواتِمِ السُّوَرِ تَجِدُها غاية في الحسن، ونهاية في الإبداع، فقد جاءت متضمنة للمعاني البديعة مع إيذان السامع بانتهاء الكلام؛ حتى لا يبقى معه للنفوس تشوف إلى ما يذكر بعد، لأنها بين أدعية ووصايا، وفرائض وتحميد، وتهليل ومواعظ، ووعد ووعيد، وما إلى ذلك كالدعاء الذي اشتملت عليه الآيتان من آخر سورة البقرة، والوصايا التي ختمت بها سورة آل عمران: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200]، والفرائض التي ختمت بها سورة النساء، وحسن الختام لما فيها من أحكام الموت الذي هو آخر أمر كل حي، والتبجيل والتعظيم الذي ختمت به سورة المائدة، والوعد والوعيد الذي ختمت به سورة الأنعام، والتحريض على العبادة بوصف حال الملائكة الذي ختمت به سورة الأعراف، والحض على الجهاد وصلة الأرحام الذي ختم به سورة الأنفال، ووصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومدحه، وتسليته، ووصيته بالثقة بالله تعالى، والتهليل بالتفويض إليه سبحانه الذي ختمت به سورة براءة، وتسليته - صلى الله عليه وسلم - التي ختمت بها سورة يونس، ومثلها خاتمة سورة هود، ووصف القرآن ومدحه الذي ختم به سورة يوسف، والوعد والوعيد والرد على من كذب الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ختم به سورة الرعد، ومِن أحسن ما آذن بالختام خاتمة سورة إبراهيم: ﴿ هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ ﴾ [إبراهيم: 52]، ومثلها خاتمة سورة الأحقاف، وكذا خاتمة سورة الحجر بقوله: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 99]، وهو مفسر بالموت فإنها غاية في البلاغة، وانظر إلى سورة الزلزلة كيف بدئت بأهوال القيامة، وختمت بقوله: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7 – 8].
والغاية من حسن المقطع أمران: أن يتم إقناع السامعين حتى لا يبقى للنفوس بعده تطلع، وذا يكون بذكر مجمل ما أتى به مفصلاً، وأن يقوي فيهم الرغبة في العمل بما أذعنوا له، وذا يكون بإفراغ ما في الوسع في تحريك العواطف والمهارة في التأثير، وعلى الخطيب إذا لخص الخطبة أن يعمد إلى أهم ما جاء فيها من البيانات، فيبرزها في صورة جديدة وأسلوب رشيق لئلا تذهب طلاوتها، وحتى لا يكون إعادة أدلتها مثلاً من باب التكرار الممل المعيب.

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.