الخطيب وقوة الحفظ والذاكرة

الخطيب بحاجة إلى ذاكرة حافظة تمسك عليه ما أعده من أفكار، وما رتبه من معلومات تختص بموضوعه الذي يخطب فيه، وإذا لم تكن ذاكرة الخطيب واعية وحاضرة؛ تعرّض لما لا تحمد عقباه من الحَصَر [1]، والإرْتاج [2]، والنسيان، والتلعثم، وغير ذلك من مشكلات تواجهه حال إلقائه، ولذلك فإن على الخطيب أن يهتم بتحسين ذاكرته وتقويتها.
من عوامل تحسين الذاكرة:
أ- التركيز والتكرار:
ومما يساعده في هذا أن يركز جيدًا حال القراءة، وذلك بان يحصر تفكير في أثناء تحضير الخطبة، فإن هذا أدعى لتثبيت ما يحصِّله، وكذلك فإنه يفيده تكرار قراءة مادته غير مرة، حتى يشعر بأنها قد رسخت في ذهنه، كما أن عليه أن يحفظ ما لابد من حفظه مثل الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية والقدسية، وشواهد الشعر، ونحو ذلك، وبعد الفراغ من الحفظ يُسمِّعه لنفسه أكثر من مرة، أو يُسمِّع على غيره حتى يتأكد من متانة الحفظ، فكأنه بهذا يختبر قوة الذاكرة، فإن وجد ضعفًا عمد إلى تقويته وتدعيمه بالاستذكار، وإن آنس من ذاكرته حضورًا وإمساكًا للمعلومات؛ ازداد ثقة وطمأنينة.
فالتركيز والتكرار من أكبر عوامل تحسين الذاكرة، ويضاف إليهما عامل آخر - سنتحدث عنه بعد قليل - وهو ترابط الأفكار، فهذه الثلاثة، تعد كما ذكر أحد الباحثين " قوانين التذكر الطبيعية " [3].
ولكن كثيرًا من الخطباء لا يتركون لأنفسهم فرصة يتحقق من خلالها التركيز، والتكرار، فلا يُحضرون خطبهم قبل موعد إلقائها بوقت كافٍ، وإنما يَشرع أحدهم في تحضيرها قبل الموعد بوقت قصير، فترى الوقت يطارده، ويسرع ولا ينتظره، وكل همه إذ ذاك أن يجمع ما يتيسر من هنا وهناك، غير مطمئن ولا متأنٍّ، وبهذا لا يحدث تركيز ولا تكرار، بل قد يكون الخطيب بحاجة إلى حفظ نص معين، ولكن الوقت لا يمهله، ولذلك ننصح الخطيب أن يعد موضوعه في سعة من الوقت وبحبوحة من الزمن، حتى يوفيه حقه من التركز والاستيعاب.
ومما يعين الخطيبَ على التركيز أن يختار للقراءة أو التحضير الوقت الذي يكون فيه جسمه مستريحًا، وذهنه نشيطا، وعقله غير مشتت أو مشغول، فيتجنب مثلًا التحضير وهو يدافع النوم، مرهقًا يحتاج إلى شيء من الراحة، فمن يقرأ بينما يداعب النوم جفونه أغلب الظن أنه لن يصفو له شيء ذو بال مما قرأ، إن لم ينسه بالكلية.
ب- الترابط:
ومن الطرق الجيدة التي تعين على قوة التذكر وتثبيت المعلومات ما أشرنا إليه وهو " ترابط الأفكار "، فتكون أفكاره مترابطة ببعضها بحيث إذا تذكر فكرة أو عنصرًا، استدعى هذا التذكرُ الفكرةَ الأخرى، فيرتب عناصر موضوعه ترتيبًا متسلسلًا، بحيث يفضي كل عنصر إلى ما بعده ويكون نتيجة لسابقه، ومقدمة لتاليه ولاحقه، فمثل هذا الترتيب الدقيق الجيد يعين على تسلسل الأفكار وتداعيها، وسهولة تذكرها.
ويمكن أن يربط الخطيب الفكرة أو العنصر بشيء في الذهن خارجٍ عن الموضوع لكنه يعين على تذكره، ولنضرب مثلًا هنا بتذكر بعض الأرقام.
اتصل بي أحد الأصدقاء وأملى عليّ رقم هاتفه الجديد، وأرقامُ الهواتف عادة يكون بها رقمان أو ثلاثة ثابتة في بدايتها فهذان الرقمان أو الثلاثة الثابتة أعرفها جيدا لكن تبقي الأرقام الثلاثة الباقية بحاجة إلى قوة تذكر، وهذه الأرقام كانت (570) فأملاها عليّ صديقي، وقال: (570) قبل ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم بسنة، وكلنا يحفظ تمامًا أن ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم كان موافقا لعام (571) الميلادي، فكان ربط هذا الرقم بتاريخ محفور في الذاكرة أدعى لتثبيته هو الآخر في الذاكرة، بحيث يكون نسيانه بعيدَ الحصول.
وصديق آخر أعطاني رقم هاتفه، كان الرقمان الأولان من الأرقام الثابتة في أول هواتف المدينة الكبيرة كلها، وبعدها كانت هذه الأرقام: (1450) فربطتها بتاريخ أحفظه جيدًا ولا أنساه، وهو تاريخ فتح القسطنطينية على يد السلطان محمد الفاتح رحمه الله، الذي حدث عام (1453) من الميلاد، وقلت هاتف الأخ «فلان» قبل فتح القسطنطينية بثلاث سنين، حتى صار تذكّره بعد ذلك أمرًا ميسورًا.
ج- المناقشة
ومما يساعد الخطيب في تحسين ذاكرته، وتثبيت المعلومات بها أن يتناقش مع بعض الناس فيما قرأه، فإن النقاش من شأنه أن يعين على التذكر، وينشط الذهن، ويبعث على التركيز، والحصول على انطباع عميق وراسخ عن الشيء الذي يرغب في تذكره.
هل يُفضّل حفظ الخطبة بالنَّص؟
هذا؛ وفد يلجأ بعض الخطباء - لاسيما المبتدئين - إلى حفظ الخطبة بالنَّص.
وهذه الطريقة وإن كانت تعينه على التذكر إلا أن لها مخاطر لا يستهان بها، ومن ذلك:
-أن الخطيب إذا نسي بعض العبارات التي حفظها، لم يسهل عليه التصرف في الإتيان بعبارات في معناها، وربما نسي باقيالخطبة بسبب نسيان بعضها، ويفاجأ في موقفه بأن ليس عنده ما يقوله ألبتة.
-كما أن من مساوئ هذه الطريقة أنها لا تتيح للخطيب القدرة على التكيف مع ما قد يستجد من حال المستمعين، وما قد يتطلبه من تغيير حديثه، أو التعامل مع أي طارئ يطرأ له أثناء خطبته، فهو يخشى إن استطرد أو خرج عن الموضوع أن يضل طريق العودة إليه، والتقاط الخيط من جديد.
-كما أن من يحفظ بالنص يكون في الغالب منشغلًا، أكثر من اللازم بالخوف من تفلت المحفوظ ونسيانه، وهذا يكون على حساب ثقته في نفسه، وثباته حال الإلقاء.
وعلى كل حال فإن الخطيب إذا لم يحسن غير تلك الطريقة؛ فعليه أن يعد نفسه للتخلص منها مستقبلًا، وأن يحاول التخفف منها تدريجيًا، بأن يحفظ مرة، ثم في المرة التالية يعمد إلى رؤوس العناصر وبعض الأفكار فيكتبها في وريقة يجعلها في يده ينظر فيها حين إرادة الانتقال من عنصر إلى آخر، أو فكرة إلى غيرها، وعليه أن يكثر من التمرن على إلقاء الخطبة دون حفظ في مكان منعزل، أو بين بعض أصدقائه، قبل أن يواجه الجمهور، فلاشك أن هذا سوف يكسبه مرونة وقدرة على التذكر والاستحضار، دون اللجوء إلى طريقة الحفظ السابقة بالإضافة إلى أن يأخذ في الاعتبار عوامل تحسين الذاكرة التي أشرنا إليها.
.................................
[1] يقال: حَصِر القارئ والخطيب حَصَرًا؛ عيّ في منطقه ولم يقدر على الكلام. المعجم الوسيط 1 /185.
[2] أُرْتِج عليه: استغلق عليه الكلام. السابق 1 /339.
[3] فن الخَطابة، كيف تكسب الثقة وتؤثر في الناس. دايل كارنغي ص 49. دار ومكتبة الهلال. بيروت ط الأولى 1985م.

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.