وقت صلاة الضحى

 عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ قُبَاءَ وَهُمْ يُصَلُّونَ، فَقَالَ: ( صَلاةُ الأَوَّابِينَ: إِذَا رَمِضَتْ الْفِصَالُ ) رواه مسلم 1238.

وفي رواية لمسلم، عَنْ الْقَاسِمِ الشَّيْبَانِيِّ: "أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ رَأَى قَوْمًا يُصَلُّونَ مِنْ الضُّحَى. فَقَالَ: أَمَا لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ الصَّلاةَ فِي غَيْرِ هَذِهِ السَّاعَةِ أَفْضَلُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (صلاةُ الأَوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَال) "صحيح مسلم" (1237).
قال القاضي عياض، رحمه الله: " وقوله: " حين ‌ترمض ‌الفصال ": يعنى عند ارتفاع الضحى. وقال الهروى: ورَمَضُ الفصال: أن تحترق الرمضاء، وهي الرمل، فتبرك الفصال من شدة حرها، وإحراقها أخفافها» انتهى، من "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (3/ 99).
إذا تقرر معنى رمض الفصال، وأن ذلك إنما يكون عند ارتفاع الشمس، وشدة حرارتها، حتى يظهر أثر ذلك في الأرض، وتتقيه الفصال= فقد استنبط أهل العلم من الحديث: أن الوقت المذكور: هو أفضل وقت صلاة الضحى.
قال ابن الجوزي، رحمه الله: "والمعنى: صلاة الأوابين عند شدة ارتفاع الشمس. والإشارة إلى صلاة الضحى، وذلك أفضل وقتها" "كشف المشكل من حديث الصحيحين" (2/228).
وقال النووي، رحمه الله: " وفيه فضيلة الصلاة هذا الوقت. قال أصحابنا هو أفضل وقت صلاة الضحى، وإن كانت تجوز من طلوع الشمس إلى الزوال". انتهى، من "شرح النووي على مسلم" (6/ 30).
أكثر أهل العلم لا يعتني بضبط ذلك الوقت من النهار بساعاته، أو أقسامه المعروفة عند العرب قديما، وإنما يعرفونه بما دل عليه الحديث، كما سبق في كلامهم.
قال القاضي عياض، رحمه الله: "قوله: حين ‌تَرمَضُ ‌الفِصالُ» بفتح التَّاء والميمِ وضادٍ مُعجمَةٍ، وهو احْتِراقُ أظلَافِها بالرَّمْضاء، عند ارْتِفاع الضُّحى واسْتِحرار الشَّمس، والرَّمْضاءُ مَمدودٌ الرَّمْلُ إذا استحرَّ بالشَّمسِ، ومنه قوله: ويَقِيكَ منَ الرَّمْضَاء، يقال منه: رَمِضت تَرْمَض". انتهى، من "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" (1/ 577).
وينظر أيضا: "النهاية في غريب الحديث والأثر" (1/ 79)، وغيرها من كتب الغريب واللغة.
وأهل اللغة يفرقون بين "الضحى"، الذي هو أول وقت ارتفاع الشمس، و"الضَّحاء".
قال الخليل بن أحمد، رحمه الله: " ضحو: الضَّحْوُ: ارتفاعُ النّهار، والضُّحى: فويق ذلك، ‌والضّحاء- ممدود- إذا امتدّ النّهار، وكَرَب أن ينتصف» "العين" (3/265).
وقال الإمام أبو عبيد: " والضحاء: ارتفاع النهار الأعلى، وهو ممدود مذكر، والضحى مؤنثة مقصورة، وهى حين تشرق الشمس.» انتهى، من "غريب الحديث" (5/ 319).
وقال قطرب، رحمه الله: " «وقالوا: بكَرْتُ بُكوراً، وأَبْكَرْتُ وبكَّرْتُ. وغَدَوْتُ غُدُوًّا. فهذا من أَوَّلِ النهارِ.
ويُقالُ: أَضْحَيْنا في الغُدُوِّ، إذا أَخَّروهُ.
ثُمَّ الضُّحَى بعدَ الغُدُوِّ. ثُمَّ الضَّحاءُ بعدَ ذلكَ بالمَدِّ.
ثُمَّ تُظْهِرُ بعدَ ذلكَ وتُظَهّرُ، وذلك قُبَيْل نِصْفِ النهارِ إلى أنْ تزيغَ الشمسُ، وزَيْغُها إذا فاءَ الظِّلُّ فعَدَلَ.
فإذا زالتِ الشمسُ قيلَ: هَجَّرْنا تَهْجِيراً.» انتهى، من "الأزمنة وتلبية الجاهلية" (57).
وقال ابن هشام، في "سيرته"، عند تأريخ هجرة النبي صلى الله عليه وسلم: " حَتَّى هَبَطَ بِهِمَا بَطْنَ رِئْمٍ، ثُمَّ قَدِمَ بِهِمَا قُبَاءٍ، عَلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةٍ خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، حِينَ اشْتَدَّ ‌الضَّحَاءُ، وَكَادَتْ الشَّمْسُ تَعْتَدِلُ انتهى، من "سيرة ابن هشام" (1/ 492).
فتبين بذلك: أن رمَض الفصال: إنما يكون عند "الضَّحاء"، وهذا الضحاء لا يكون في أول وقت الضحى، ولا أول ارتفاع الشمس، بل إنما يكون إذا اشتدت حرارتها، وذلك قريب من وقت الظهيرة.
قال الحافظ الناجي، رحمه الله: " ورَمضت: بكسر الميم ترمَض بفتحها، إذا احترقت أخفافها بالرمضاء، وهي الرمل الذي اشتدت حرارته بوقوع الشمس عليه.
يعني: أن الأفضل أن تُصلى الضحى عند اشتداد الحر، وارتفاع الضحى. قال الجوهري: "والضَّحاء: هو عند ارتفاع النهار الأعلى".
وإن كانت تجوز من ارتفاع الشمس إلى زوالها» انتهى، من "عجالة الإملاء على الترغيب والترهيب" (2/ 656).
وقال البهاء ابن أبي عمر، رحمه الله: " وأفضل وقتها: إذا علت الشمس، واشتد حرها انتهى، من "الشرح الكبير" (4/ 206).
وكأن هذا هو مأخذ من صرح من أهل العلم بأن وقت (صلاة الضحى) المختار: هو آخر وقتها، عند اشتداد حر الشمس، كما هو المعروف في الوجود، قبل صلاة الظهر.
وبعض أهل العلم صرح بأن هذا الوقت المذكور لفضيلة الضحى: إنما يكون قبل الزوال، يعني: قبل دخول وقت النهي عن الصلاة، عندما يقوم قائم الظهيرة.
وأول من علمناه صرح بتحديده وقت صلاة الضحى المختار (الأفضل) بأنه: (قبل الزوال، أو قبيل الظهر): هو الشيخ عبد القادر الجيلاني، الحنبلي، رحمه الله. قال:
"فلها وقتان: جائز، وهو بعد طلوع الشمس إلى صلاة الظهر، ومستحب، وهو حين ‌ترمض ‌الفصال، عند قرب الزوال. انتهى، من "الغنية لطالبي طريق الحق" (2/ 163).
نعم؛ سبقه إلى ذلك التحديد الحافظ أبو عوانة في "مستخرجه"، لكنه ذكر أن هذه صلاة أخرى، سوى صلاة الضحى، تستحب في هذا الوقت، وأنها أفضل من صلاة الضحى. قال:
"‌‌باب الترغيبِ في الصلاةِ بالهاجرة، وعند قُرْبِ الزوال، والدليلِ على أنها أفضلُ من صلاة الضحى». ثم روى في بالباب حديث زيد بن أرقم السابق. انظر: "مستخرج أبي عوانة" (6/ 113).
واختار هذا القول من المعاصرين: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، رحمه الله. قال:
"باب فضل صلاة الضحى وبيان أقلها وأكثرها وأوسطها صلاة الضحى هي: ركعتان أو أكثر تفعلان من ارتفاع الشمس قدر رمح إلى قبيل الزوال.
وارتفاع الشمس قدر رمح يكون بمقدار ربع ساعة أو نحوها بعد طلوع الشمس فمن ثم يبدأ وقت صلاة الضحى إلى أن يبقى على الزوال عشر دقائق أو قريب منها.
كل هذا وقت لها لكن فعلها في آخر الوقت أفضل لقول النبي صلى الله عليه وسلم: صلاة الأوابين حين ‌ترمض ‌الفصال والفصال: أولاد النوق، وترمض يعني: تشتد عليها الرمضة.
وهذا في آخر الوقت.
وهذه من الصلوات التي يسن تأخيرها ونظيرها في الفرائض صلاة العشاء فإن صلاة العشاء لها أن تؤخر في آخر وقتها إلا إذا شق على الناس." انتهى، "شرح رياض الصالحين لابن عثيمين" (5/ 151).
وسئل رحمه الله:
"متى ترمض الفصال وحددوا لنا الساعة بالضبط؟
فأجاب: " ترمض الفصال عند زوال الشمس، لأن ذلك وقت اشتداد الحر وألم الرمضاء على الفصال وهن صغار الإبل وتحديد ذلك أن يكون هذا قبل زوال الشمس بنصف ساعة أو خمس وأربعين دقيقة أو نحو ذلك المهم أن تنتهي منها قبل الزوال بعشر دقائق" انتهى من "فتاوى نور على الدرب للعثيمين" (8/ 2، بترقيم الشاملة آليا).
وهذا هو أرجح القولين في وقت (صلاة الضحى) المختار، وفي بيان وقت رمَضِ الفصال، المذكور في الحديث.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن ذلك إنما يكون في: "ربع النهار". وإن كان الذي يظهر، والله أعلم: أن مراده بذلك التقريب، لا التحديد.
وأول من علمناه صرح بذلك من أهل العلم: أبو الحسن الماوردي، الشافعي. قال رحمه الله: " ووقتها في الاختيار: إذا مضى من النهار ربعه الحاوي الكبير (2/ 287).
مع الانتباه إلى أن الماوردي لم يذكر حديث زيد بن أرقم أصلا في هذا الفصل، ولا ذكره الروياني في "البحر" (2/228) وهو يحذو حذو الماوردي، كما هو معلوم.
وقد تبع الماوردي عامة الأصحاب – الشافعية -على ذلك، وربما قرروا ذلك، مع الاحتجاج بحديث زيد بن أرقم السابق. قال النووي، رحمه الله:
" وقتها من ارتفاع الشمس إلى الزوال قال صاحب الحاوي: وقتها المختار قال إذا مضى ربع النهار لحديث زيد بن أرقم رضي الله عنه..»، انتهى، من "المجموع شرح المهذب" (4/ 36).
وهو نفس كلامه في "الروضة" (1/332)، مع التصريح هناك بـ"الماوردي"، بدلا من "صاحب الحاوي" هنا.
ومن هنا ذكر من ذكر أن المراد بـ"حين ترمض الفصال": ربع النهار. حتى انتقل ذلك عنهم إلى الأحناف، الذين يقررونه، ويعزونه إلى "صاحب الحاوي"، وليس منهم؛ إنما هو "الحاوي" للماوردي، الشافعي. ولا نعلم للأحناف كتابا فقهيا، يعزون إليه: يدعى "الحاوي". فلينتبه إلى ذلك.
قال الحموي، رحمه الله: " وقت صلاة ‌الضحى من ارتفاع الشمس إلى ما قبل الزوال.
قال صاحب الحاوي: ووقتها المختار: إذا مضى ‌ربع ‌النهار؛ لحديث زيد بن أرقم ... كذا في شرح المنية للبرهان الحلبي" انتهى، من غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر (1/ 123). وينظر: "حاشية ابن عابدين" (2/22).
هذا؛ مع أننا ننبه هنا إلى أن هذا (التحديد): لم يصرح به أحد من أئمة اللغة في كتبهم، فيما علمنا من صنيعهم، بعد طول بحث وتفتيش عن كلام لهم في ذلك؛ فإن أحدا منهم لم يعين وقت الرمضاء بأنه ربع النهار؛ وإنما يذكرون صفته، أو يذكرون ما نقلنا في وقت "الضَّحاء"، على ما سبق نقله.
لا فرق بين وقت الفضيلة لصلاة الضحى بين "الشتاء" و"الصيف"، ولم نقف على أحد من أهل العلم، بعد طول بحث وتفتيش: فرق بين الصيف والشتاء في وقت الفضيلة، أو ذكر أنه إذا كان المعنى من فضيلتها في هذا الوقت: الرمضاء، فإنه إذا لم تكن "رمضاء"، اختلف الوقت.
بل المراد بذلك بيان وقت الفضيلة فيها، على عادة العرب في بيان المواقيت والأزمنة، وغير ذلك من التحديدات، بما يعرفونه في بلادهم، ويعتادونه في بيئتهم. فيقدرون بـ"فواق الناقة"، و"مزجر الكلب"، ونحو ذلك مما يؤقتون المكان والزمان: بعلامات يعرفونها في بيئتهم، وبلادهم.
وبعض أهل العلم يعلل فضيلة صلاة الضحى في الوقت المشار إليه: بأنه وقت انشغال الناس في مكاسبهم، ومعايشهم؛ فالأواب منهم: من يترك ذلك، ويرجع إلى ربه بالطاعة. وذلك لا يختلف صيفا ولا شتاء. قال الإمام الطبري، رحمه الله:
" المعروف من الأوقات لتصرف ‌الناس في مطالبهم ومكاسبهم، والاشتغال بسعيهم لما لا بد منه لهم من طلب أقواتهم- وقتان من النهار:
أحدهما: أول النهار، بعد طلوع الشمس إلى وقت الهاجرة. وقد خفف الله تعالى ذكره فيه عن عباده عبء تكليفهم في ذلك الوقت، وثقل ما يشغلهم عن سعيهم في مطالبهم ومكاسبهم. وإن كان قد حثهم في كتابه وعلى لسان رسوله في ذلك الوقت على صلاة، ووعدهم عليها الجزيل من ثوابه، من غير أن يفرضها عليهم، وهي صلاة ‌الضحى.
والآخر منهما: آخر النهار، وذلك من بعد إبراد ‌الناس، وإمكان التصرف، وطلب المعاش، صيفا وشتاء، إلى وقت مغيب الشمس. وفرض عليهم فيه صلاة العصر ..." انتهى، من "تفسير الطبري" (5/ 227).
وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي، رحمه الله، وقد سئل عن وقت صلاة الضحى:
وأفضل ما تقع ‌صلاة ‌الضُحى بعد ارتفاع النهار، فإذا ارتفعت الشمس قيد رمح بدأ وقت الجواز، فإذا اشتد النهار قليلاً بعد إشراق الشمس بقدر ساعة فهو أفضل؛ لأن الغفلة من الناس تكون في مثل هذا الوقت، وهو وقت طلب التجارة والكسب، فكون الإنسان يترك التجارة والكسب ويُقبِل على الله في مثل هذا الوقت فهذا فضل عظيم. انتهى، من "شرح زاد المستقنع" (32/ 8 بترقيم الشاملة آليا).
وهذا كما قلنا سابقا: مما لا يختلف صيفا، ولا شتاء.
والحاصل:
أن الوقت المذكور لفضيلة صلاة الضحى: لا يختلف صيفا ولا شتاء، سواء قلنا: إن ذلك يكون ربع النهار، أو قلنا إنه آخر وقتها، إلى ما قبل الزوال.
 

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.