ذكرى الهجرة النبوية

إن فاتحة كل عام من أعوام السنة القمرية تثير في نفوسنا ذكرى الهجرة المحمدية من مكة إلى المدينة المنورة، وتثير معها ذكريات أخرى لآيات وعبر تزداد على مرِّ الأحقاب عظمة، وتكسب على نسبة تقدم العلوم وتتابع الحوادث جلالًا وروعة.

لما شَرَّف الله محمدًا صلى الله عليه وسلم برسالته إلى الناس كافة، أخذ يدعو إلى الإسلام سرًّا، فاتخذ دار الأرقم بن أبي الأرقم مقرًا للاجتماع فيه بمن يؤمن به، فكان يوافيه السابقون إلى قبول دعوته، فيبلغهم ما ينزله الله عليه من الوحي. لبث على تلك الحال مدة، ثم أمره الله أن يدعو إلى دينه عشيرته الأقربين، وهم: بنو هاشم،ـ وبنو عبد المطلب، وبنو نوفل، وبنو عبد شمس، فدعاهم إليه، وبشرهم وأنذرهم، فرد عليه جمهورهم بكلام لين؛ إلا عمه أبا لهب؛ فإنه قال: خذوا على يديه قبل أن يجتمع عليه العرب، فإن أسلمتموه ذللتم، وإن منعتموه قتلتم. فقال عمه أبو طالب: والله لنمنعنه ما بقينا. وانصرف الجمع.

ثم أمر الله رسوله بأن يدعو الناس كافة، واعدًا إياه بأن يحفظه من كيد الكائدين، فأنزل عليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ۖ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67]، وقوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۚ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 94-96]، فاضطلع صلى الله عليه وسلم بما حَمَّله ربه من أعباء الرسالة أحسن اضطلاع، فلم يَدَعْ وسيلة إلا قام بها، فأغضب ذلك قريشًا وهي قبيلته التي يعتزي إليها، فشرعت في صدِّه عمَّا هو فيه من طريق المحاسنة أولًا، ثم بالإغراء بالمال والجاه ثانيًا، فلما لم يرفع بمسوّلاتها رأسًا، ولم يُقم لها وزنًا، عمدت إلى الاستهزاء به، والتشنيع عليه، ثم إلى اضطهاده واضطهاد الذين اتبعوه، واستهترت في ذلك بما أملته عليها جاهليتها.

فلما اشتدَّ على المسلمين الأمر، وضاق عليهم الخناق، أذن الله لهم في التفرُّق في الأرض هربًا بدينهم، وأشار عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى الحبشة، فخرجوا ولم يبقَ مع رسول الله إلا القليل.

في هذه الأثناء أسلم عمر بن الخطاب، وكان رجلًا شديدًا مهيبًا، فكسب المسلمون بإسلامه قوة.

فخاف المشركون أن يفلت الأمر من أيديهم، فأجمعوا أمرهم على أن يعتمدوا على أقصى الوسائل في قمع حركتهم، فرأوا أن يطلبوا إلى عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وهم من ذكرنا آنفًا، أن يسلموه لهم، فلما أبوا عليهم ذلك قرروا مقاطعتهم، واجتمع قادتهم، وكتبوا عهدًا بذلك، ووضعوه في جوف الكعبة، فرأى عشيرته أن ينتقلوا إلى شِعْب أبي طالب، فدخلوه جميعًا، وبقوا فيه ثلاث سنين حتى نفدت أقواتهم وأكلوا ورق الشجر، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما حلَّ بأصحابه وعشيرته أمرهم بأن يهاجروا إلى الحبشة ثانية، فهاجر منهم إليها ثلاثة وثمانون رجلًا وثماني عشرة امرأة، فأرسلت قريش وراءهم عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد ليكيدوا لهم كيدًا عند النجاشي، فلم يرفع بسعايتهم رأسًا.

ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشِّعب مع عشيرته، وصل إلى مكة وفدٌ من نصارى نجران باليمن، فلما رأوا أمارات النبوة عليه، وما يتحمله من الشدة في سبيل الدعوة إلى دينه، أدركوا أنه رسول الله حقًّا فآمنوا به، وكان عددهم عشرين رجلًا، ورجعوا إلى قومهم.

فلما نما إلى قريش أن رجالًا من أهل المدينة اتصلوا سرًّا بالنبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا على يده وأخذوا يدعون قومهم للإيمان به، وأن المسلمين شرعوا يهاجرون إليهم زرافات ووحدانًا، سرًّا وعلانية، أدرك القرشيون أن الساعة قد أزفت لتنفيذ ما أضمروه من قتل رسول الله وتفريق دمه في قبائلهم، فأوحى الله إليه بما بيَّتوه له من الشر، وأمره أن يهاجر إلى المدينة.

فصدع النبي صلى الله عليه وسلم بأمر ربه، وخرج إليها هو وأبو بكر ليلًا، فلما أدركهما الصبح اختفيا بغار موحش في الطريق، موقنين أن المشركين سيتعقبونهما، ولما أمنا الطلب خرجا منه، وتابعا طريقهما حتى وصلا إلى المدينة، فاستقبلهما أهلها باحتفاء عظيم، وكان الإسلام قد استبحر فيها، فاتخذها صلى الله عليه وسلم مقرًّا لدعوته، وجعل أهلها أنصارًا له، وقبلوا هم أن يدافعوا عنه بأموالهم وأرواحهم من يقصده بسوء ولو تألب عليه العالم كله.

هذه حوادث فذَّة في تاريخ الإنسانية، لا يجوز إغفال النظر فيها؛ وبخاصة تحت ضوء العلوم الاجتماعية، فقد أبانت نواحي إذا جلِّيت تجلَّت منها آيات بينات تستصغر بجانبها أكبر حوادث التاريخ، وتصبح من أقوى الأدلة على صحة الرسالة المحمدية. ونحن نبينها في ثلاثة فصول:

(أولها): ظهور دعوة عامة للأمم كافة، من بيئة لم تنضج بعد حتى لدعوة خاصة.

(ثانيها): تطوع طائفة لا يزيد عددها على بضعة ألوف للدفاع عنها حيال العالم كله ونجاحها في ذلك.

(ثالثها): تحقق ما وعد به الكتاب الكريم هذه الطائفة من النصر ومن تبوُّء خلافة الله في الأرض.

فيحسن بنا أن نتولى النظر في هذه الآيات الثلاث، فنقول:

نجاح دعوة عامة في بيئة لم تنضج لدعوة خاصة:

قرر العلم الاجتماعي أن المجتمعات أول ما تنشأ تكون على حالة قبائل، متعددة متباينة في الأخلاق والعادات، فتبقى على ما هي عليه قرونًا حتى يحدث لها بفعل عوامل التطور ما يدفعها إلى التوحد، فتنشأ منها أمة ساذجة، فلا تزال تعركها الحوادث، وتقوِّم من أودها، وتقوي من روابطها، قرونًا أخرى؛ حتى تصير أمة مستحصدة العرى، قوية البنية، تصلح للكفاح والغلب. وعلى هذا الترتيب التدريجي تظهر فيها المبادئ والأصول الأدبية، فلم يشاهد قط أمة تتكون تكونًا فجائيًا على أكمل ما تكون قوة وصلابة، ولا أمة كانت مجردة من المبادئ والأصول، تنهض بغتة لتملي على العالم أرفع الأصول وأكمل المبادئ، وتنجح في ذلك نجاحًا لا مرمى بعده في سنين معدودة.

العالم كله يعلم أن العرب كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم على مثل ما كانوا عليه منذ أجيال كثيرة: قبائل متفرقة، وأوزاع متنافرة، لا يوحد كلمتهم دين، ولا تضم نَشَرهم جامعة، وكانت بينهم حروب متوارثة، وإحن وثارات قائمة على اعتبارات جاهلية موبقة، عاشوا كل تلك الأجيال على هذه الحال، معتبرين ما كانوا فيه من مفاخرهم، لم يقم فيهم من يدعوهم لتوحيد كلمتهم، ولا لتحديد وجهتهم، وتعيين غايتهم، ولم يكن في طبيعة بلادهم، و قحولة بيئتهم، ما يضطرهم إلى حياة مشتركة تعم جنسهم كله، ولم يكونوا وهم في أمية مطبقة ليتأثروا بحاجات عقلية تدعوهم للنظر، وتجبرهم على التفكير، ثم تحفزهم إلى تغيير ما هم فيه من الجمود على عقائد باطلة، وتقاليد ضارة.

فلما أرسل إليهم محمد صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، أنكروه؛ ولكن أي إنكار، وثاروا عليه؛ ولكن أية ثورة، فرموا رسول الله بالافتراء والاختلاق، وبالسحر وقول الشعر؛ بل بالجنون.

وقد حكى الله بعض ما واجهوا به الدعوة الإسلامية، فقال تعالى: {وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ} [ص: 4-7]، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ، وَمَا آَتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} [سبأ: 43، 44]، وقال تعالى: {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} [الصافات: 36]، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ، أَفْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ ۗ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ} [سبأ: 7، 8]، وقال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا، إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 41، 42]، وقال تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلا مَّسْحُورًا} [الفرقان: 7، 8].

فكان الحق -جل وعلا- وهم في موقفهم هذا يداول لهم بين الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، ويضرب لهم الأمثال، ويدعوهم للنظر والاعتبار، فلم يزدادوا إلا عتوًا واستكبارًا، ونفورًا من الحق وإنكارًا، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم تكاد تذهب نفسه حسرات عليهم، فيمده الله بالآيات تهدئة لقلبه، وتأسية له بالرسل من قبله، من مثل قوله تعالى: {مَّا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ ۚ} [فصلت: 43]، وقوله تعالى: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} [آل عمران: 184]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ، وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰ ۚ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ}.

هذه كانت حال البيئة التي أرسل فيها النبي صلى الله عليه وسلم، من الاستعصاء عن قبول دعوته، والتمادي في مناوأته؛ حتى قررت قتله والتخلص منه، فأطلعه الله على ما بيتوه له من الشر، وأمره بالهجرة إلى المدينة بعد أن لبث فيهم ثلاث عشرة سنة لا يألوهم نصحًا. وليس بعد هذا دليل على أن تلك البيئة لم تكن مستعدة لإحداث أي انقلاب في حالتها الاجتماعية والأدبية. وفي هذا الاستعصاء أكبر رد على الذين يقولون: إن العرب كانوا على وشك تغيير ما هم عليه من الحالة النفسية، فلما قام محمد صلى الله عليه وسلم بالدعوة فيهم اتبعوه وأيدوه.

تطوع طائفة للدفاع عن الدعوة الإسلامية:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عمد بعد أن يئس من قومه أن يعرض نفسه على القبائل التي كانت تأتي إلى مكة للحج أيام الموسم، فكانوا لا يأبهون لدعوته، فاتفق أن قابل فيمن قابلهم رجالًا من الأوس والخزرج سكان المدينة، فاستحسنوا دعوته، ووعدوه بعرض أمره على قومهم، فحضر خصيصًا لهذه الدعوة في العام التالي نحو سبعين رجلًا منهم، فاجتمعوا في جنح الظلام في شِعب من شعاب مكة، وقبلوا أن يدخلوا في الإسلام، وأن يدافعوا عنه؛ ولو أداهم ذلك إلى مكافحة العالم أجمع، وجرَّ ذلك إلى فنائهم جميعًا. ثم قالوا: وما لنا على هذا كله؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «لكم الجنة»، قالوا: رضينا. وانصرفوا على أن يهاجروا إليهم هو ومن بقي بمكة معه من أصحابه، وأن يستدعي من ذهب إلى الحبشة منهم ليوافوا إخوانهم بالمدينة، ثم انفضوا على ذلك.

هنا أربع آيات من أكبر ما استجلاه الناس من آيات الله في خلقه:

(أولها): قبول قبيلتين من قبائل العرب اليمانية دعوة يقوم بها رجل من قبيلة عدنانية، على ما كان بين هاتين الفئتين من التنافس والتنافر في تاريخهما كله، ومعنى قبولهما دعوته: خضوعهما لسلطانه. وهذا ما كان ليحدث بين قبيلتين تمُتُّ إحداهما للأخرى بصلة القرابة، فكيف به بين فريقين متنافسين؟!

(ثانيهما): اضطلاع طائفة من الناس لا يزيد عدد آحادها على بضعة آلاف بعبء خطير يعرضها لمعاداة جميع قبائل العرب، بله شعوب الأرض كافة.

(ثالثها): اطمئنان هذه الطائفة إلى الإسلام إلى حد معاداة العالم كله في سبيله، ولم تمض عليهم فيه حقبة من الدهر تكفي لأن تطبع نفسياتهم بطابعه، وتحبب إليهم بذل أرواحهم في نصرته. هذه طفرة لم يشاهد لها مثيل في تاريخ النفسية الإنسانية.

(رابعها): رضاء هذه الطائفة بالجنة جزاء على هذه التضحية، فلا المُلك ولا سلطانه، ولا الدنيا ولا ملذاتها كانت لديهم شيئًا يمكن أن يعوقهم من إجابتهم دعوة الرسول صلى الله عليه  وسلم.

لا مشاحة في أن هذه آيات يجب أن يراها الناس ويتأملون فيها؛ فإنها من أدلِّ الدلائل على التأييد الإلهي لرسوله، ومن أقوى الشواهد على أن النبوة أمر تخرق له سنن الكون، وتخضع له قواه ونواميسه.

تحقق ما وعد الله به رسوله من النصر:

إن شئت أن تشهد آية هي أكبر وأجل آيات الله في عباده، فاشهد أن قام رجل في جماعات أمية، في أحط دركات الجاهلية، يدعوها لأن تجتمع على دين لا عهد لها بمثله، يخلعها عن أكثر عاداتها، ويمتلخها عن أثبت موروثاتها، ويقيمها على نهج جديد لم تعهده في جميع أدوار تاريخها، فينجح في ذلك نجاحًا لم يقدر مثله لمصلح كان قبله أو جاء بعده.

تقول دائرة معارف لاروس في عرض كلامها عن الإصلاحات الاجتماعية:

"إن المبادئ الجديدة، والأصول الطريفة، لا يمكن أن تسري في نفسية أمة من الأمم بمجرد بثها فيها؛ ولكن لابد من مرور أجيال متعاقبة عليها قبل أن ترسخ في نفسيتها وتصبح حالًا لها، وتصدر أعمالها عنها".

نقول: هذا ما قرره العلم، ودلَّت عليه التجارب الإصلاحية في الأمم؛ ولكن الدعوة الإسلامية، على سمو أصولها عن كل الأصول المعروفة إلى اليوم، قد قبلتها الطائفة التي انتدبت لحمايتها، وقامت على سنتها طفرة، فتأدت بها إلى السيادة على الأرض، وهذا وحده من أكبر المعجزات في نظر العلم الاجتماعي؛ لأنه ينقض أكبر ناموس فيه، وهو ناموس التطورات التدريجية.

وقد أشار الكتاب نفسه إلى جلالة هذا الأمر، فأضافه إلى محض قدرة العزيز العليم إكبارًا لشأنه، وإعظامًا لخطره، فقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران: 103]، وقال تعالى: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ} [الأنفال: 63].

إننا نذكر كل هذه الحوادث الكبار، كلما عنت فرصة لذكرها؛ لأن الأمر أكبر من أن تكفي فيه البحوث المستفيضة، والتحليلات الدقيقة، فغرابته وإعجازه يتجددان بزيادة مادة العلم، وتوالي العبر العالمية.

وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين 

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.