الهجرة النبوية.. دلالات وعبر

لكل أمة علامات تسطع في تاريخها، وتخلد في ذاكرتها، وشأن المتحضرين الاحتفاء بمآثرهم بما يجدد فيهم الدماء للبناء، ويوقظ فيهم ذاكرة المجد، والهجرة قبس في سماء هذه الأمة أضاء ولم يزل مضيئًا يستمد الناس من نوره ما يزيل عنهم الأوهام والهموم، فنسأل الله تعالى أن يلهمنا من ذكرها الأجور ومن ذكراها العظة والنور.

أحداث الهجرة بإيجاز:

لما اشتد بطش قريش في مكة وزاد أذاها ضد المسلمين، وعزموا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم. قرر الهجرة إلى المدينة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم سيدنا عليًّا أن يبيت في فراشه، وأن يغطي رأسه ببرده الحضرمي ليرد الودائع للناس.

تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: لما أذن له صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى المدينة لم يرعنا (يخوفنا) إلا وقد أتانا ظهرًا فخبر به أبو بكر، فقال: ما جاءنا النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الساعة إلا لأمر حدث... قال أشعرت أنه قد أذن لي في الخروج، قال الصحبة يا رسول الله قال الصحبة؟ قال: يا رسول الله: إن عندي ناقتين أعددتهما للخروج فخذ إحداهما. قال: «قد أخذتها بالثمن». صحيح البخاري.

فخرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته، ثم عمدا إلى غار ثور بجبل أسفل مكة فدخلاه، وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره ثم يريحها عليهما إذا أمسى وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما (السيرة النبوية ابن هشام - بتصرف).

لكن قريشًا رصدت مئة ناقة لمن يرد النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه فجدَّ الناس في طلبهما حتى كادوا أن يدركوهما في الغار. فعن أبي بكر رضي الله عنه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا ي الغار لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، قال: «ما ظنك يا أبا بكر بثانين الله ثالثهما؟» (صحيح مسلم) (فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جُعشُم على فرسٍ له فقلت هذا الطلب قد لحقنا يا رسول) الله). فقال: «لا تحزن إن الله معنا».

وقد نجى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم من كيد قريش فلم يظفروا به، فوصل المدينة سالمًا واستقبله الأنصار بالحب والترحاب، فعن أنس قال: "لما كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم كل شيء..." (مسند أحمد بن خليل).

أسباب الهجرة

للهجرة أسباب منها ما اقتضاه المقام آنذاك؛ ومنها ما يتجلى لنا من بعدُ.

ومن أبرزها:

- اشتد النكير من قريش والقبائل الحيطة بها لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم بالرفض والمحاربة الفكرية والاقتصادية حتى وصل الأمر إلى عزمهم على قتل النبي صلى الله عليه وسلم بتدبير يعرقل استمرار الرسالة المحمدية. مما مهد للبحث عن مكان آخر يستقبل فيه هدي السماء وينشره بين الناس، فكانت الهجرة.

- زيادة الأذى الذي كان يتعرض له النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من قريش بالتعذيب والتقتيل وسلب المال والاستضعاف مما دفع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن يتشوفوا لمكان آمن يتحرر فيه المسلمون في الكلمة والحركة فكانت المدينة المنورة. 

- وجود البديل المناسب. حيث كانت بيئة المدينة مناسبة لاستقبال دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لما عرفوه عن اليهود بأوان بعثة نبي من الله فبادر رهط منهم إلى بيعة النبي صلى الله عليه وسلم على الإيمان والإيواء والنصرة.

- فقدان النصير العزيز. عارض الدعوة جل عشيرته وأقربائه صلى الله عليه وسلم، ولم ينصره سوى نفر قليل من أهله كان أبرزهم عمه أبو طالب وزوجه السيدة خديجة رضي الله عنها. ويشاء الله تعالى أن يموتا فيعام واحد، وقد كانا له سكنًا في البيت والمال ونصيرًا ودرعًا ووقاية من بطش قريش وأذاها.

- الرعاية الخالصة من الله عز وجل. حتى لا يكون لاد فضل على رسالة الله ونبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يقال بأن أهل مكة انتصروا لنبيهم عصبية أو قومية، فشاء الله تعالى أن يكون القبول له من غير أهله ووطنه.

الدلالات المستقاة من الهجرة:

منزلة الخليفة أبي بكر رضي الله عنه:

لقد اصطفى النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر لمرافقته في هذه الرحلة مما يدل على كبير فضله وعظيم منزلته، وقد أوفى بواجبات الصحبة قبل الهجرة وأثناءها؛ فهو من استأجر الدليل وأحضر الراحلة، وسخر ولده عبد الله لموافاتهم بالأخبار وابنته أسماء للطعام، وراعى أغنامه يأتيهم باللبن فيشربون، وقد نوه القرآن بصنيعه فخلد ذكره صاحبًا للنبي صلى الله عليه وسلم في الغار: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنى فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم} [التوبة: 40] وقد أكد المصطفى صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: «إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدق وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركو لي صاحبي مرتين فما أوذي بعدها». (صحيح البخاري).

حب الوطن من الإيمان:

الوطن هو المهد الذي ولدنا فيه، وعلى أرضه نعيش ومن خيره نطعم ونشرب. وحبه نزعه إيمانه عبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم حينما خرج من الغار قاصدًا المدينة، فوقف في أطراف مكة مناجيًا ومودعًا لها قائلاً: «اللم إنك أحب البلاد ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت» فهو قول يؤصل لحب الوطن ومكانته الإيمانية في النفس.

التعاون مع الملل الأخرى:

لا حرج على المسلم أن يتعامل  مع الناس وإن اختلفت مشاربهم وعقائدهم سعيًا منه لجلب مصلحة أو دفع مفسدة، فالحكمة ضالة المؤمن، وقد جسد هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما استأجر دليلاً كافرًا يرشده الطريق.

التوكل على توفيق الله والأخذ بالأسباب في مواجهة أعباء الحياة:

لقد كانت الهجرة بعد حدث إعجازي كبير في رحلتي الإسراء والمعراج، وربما تسرب إلى ذهن المسلمين أن كل مشاكلهم ستنقضي عن طريق خرق النواميس الكونية، فكانت الهجرة درسًا لنبذ الاتكال على الغيب بلا حراك، وقد استنفد النبي صلى الله عليه وسلم كل الوسائل المتاحة لديه في الهجرة من تخطيط وتدبير، ولما تمكنت قريش من رصده، تدخلت عناية الله لحماية من توكل وباشر الأسباب ووثق في قضاء الله وقدره.

دور المرأة المسلمة في المهمات الصعبة:

كان لأسماء – رضي الله عنها – أثر ريادي في التعمية عن خبر والدها، فلم يرهبها بطش أبي جهل، فما اعترفت بشيء من أمر نبيها وأبيها، وواصلت دورها بإيصال ما يحتاج إليه النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه من مؤنة الطعام والشراب. بل إنها ردت عن أبيها غضب جدها قال لها ما أرى أباك إلا قد فجعكم بنفسه وماله، فتحايلت بما يوهمه أنه ترك لهم مالاً، من حيث لم يفعل رضي الله عنه، مما يؤكد حضور المرأة والاعتماد عليها في جسام الأمور.

التوازن في اتخاذ القرارات:

بالرغم من كل ما واجهه النبي صلى الله عليه وسلم فلم يهرع إلى الهجرة من أول جولة، بل صبر وغفر وواجه الحجة بالحجة وما لم يجد بدًا من قبولهم ركن إلى الهجرة.

كيف نحقق معاني الهجرة؟

الهجرة حدث باء بفضله السابقون، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح» لكنه من الممكن تحصيل بعض من معاني الهجرة من حيث الفضل والثواب من خلال ما يأتي:

1- هجران المعاصي. فقد عده النبي صلى الله عليه وسلم معنى من معاني الهجرة حيث قال: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» (صحيح البخاري).

الهجرة كما يعرفها العلماء هي ترك شيء إلى آخر، أو الانتقال من حال إلى حال، أو من بلد إلى بلد؛ ومن كل ما مر نستلهم أن الهجرة حدث يقتضي التغيير، فيترك المقام الأدنى إلى المقام الأعلى بعد الدراية والتدبير.

2- التربية الروحية للقلب هلى الخير. فالقلب هو محط الخير والشر، وتربيته على الخير أو هجرانه المنهيات أدعى في تحقيق معاني الهجرة؛ فإن استحال القلب إلى وعاء لكل خير، باء المسلم بمعنى كبر من معاني الهجرة وقد أعلى النبي صلى الله عليه وسلم مقامات الناس بالنوايا الحسنة فقال: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» (صحيح البخاري).

3- الهجرة المتوازنة: إن الهجرة بمفهومها الامل تعني قراراً بالتغيير والانتقال، وتفاصيل الهجرة النبوية الشامل أن اتخاذ القرارات يعتمد النضج والمشاورة والتخطيط، فمن عزم على هجرة في حياته أو نقله في دينه وجب عليه الأخذ بتدابير الهجرة القائمة على التخطيط والمشاورة والتدبير من غير طيش أو سفه.

4- تبادل المعية. إن أعظم دروس الهجرة كينونة العبد مع الله، ومن ثم استجلاب معية الله، فمن سلك دربًا لله تعالى وفيه من أجله، فقد وصل  وما على المؤمن  إلا مباشرة الأسباب، فإن طاوعتك الأسباب المخلوقة فمن أجلك وضعها وإن أراد الله لك أمرًا واستنكرت سننه طاعة لمن وضعها، فلا تستغرب أن يخرق الله تلك السنن من أجلك، وهو ما نستنبطه من معجزات الهجرة التي توالت لما كان العمل خالصًا لله وفيه ومن أجله.

5- تحقيق معنى الصحبة وهو معنى تعبدي أخلاقي جسده النبي صلى الله عليه وسلم باختيار نوع الصاحب، فاختار من كان لمقامه أهلاً، فقد أنفق الصديق المال، وسخر الولد لخدمته وضحى بكل ما يملك لقاء صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أمر  غائب بعض معانيه ومضامينه في دنيا الناس اليوم، فالصحبة معنى ومنزلة يجب تحقيق مقاصدها في نفع البلاد والعباد.

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.