العام الهجري الجديد

يذكر المسلمون في مستهل كل عام قمري هجرة خاتم النبيين من مكة إلى المدينة، ويذكرون بهذه المناسبة تاريخ الإسلام وما كان من نتائج انتشاره من الانتقالات الفكرية والدينية والاجتماعية بين شعوب الأرض قاطبة.

أمضى محمد صلى الله عليه وسلم من عمره أربعين سنة لا يحدث نفسه بأن يقوم بدعوة، ولكنه لم ينشأ جامد القلب ولا خامد العقل، على ما كان عليه الناس المحيطون به، فشعر بما هو فيه من الحيرة بين أديان لا يسيغها عقله، وحقائق خفية لم يوصله إليها إدراكه، فكان يعتزل الناس ويأوى إلى غار في الجبل، يتجرد فيه من جميع علائق الدنيا، ولاجئًا إلى مبدعه أن يهديه لما تتوق إليه نفسه، ويطمئن به قلبه. فبينما هو في جولة من جولات تفكيره إذ جئه من عالم الروح ما جئه، فانكشف له ما انكشف لكل نبي قبله، وكانت ثمرة ذلك تكليه بدعوة قومه إلى الدين الحق، وإلى الطريقة المثلى للحياة ثم ما لبث أن كلف بدعوة الخلق كافة إلى دين الفطرة.

مهمة كان مجرد الفكرة فيها يوقع في اليأس، ويوجب الحيرة. عالم يغلي بالاضطرابات والفتن، ويفور بالسخائم والإحن، وأمم تتناحر تناحر الضواري، وطوائف تتزاحم تزاحم الهيم على الأوشال، وانصراف عن التفكير والتعقل لا يدع لصاحب دعوة أملاً في أن يصغى له فضلاً عن أن يجاب إلى ما يدعو إليه، وجمود على التقاليد والموروثات لا نترك لمجدد خيالاً من توقع الفوز فيما هو بدهي، فما ظنك بما يحتاج لرؤية؟

مضى صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الإسلام كما أمره ربه، فكان جواب قومه عليها كما ذكره الله تعالى عنهم: {وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب * أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب* وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد * ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة هذا إلا اختلاق} {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين} الخ الخ.

هذا كان جواب قومه الأقربين، الذين كانوا يلقبونه قبل الدعوة بالأمين، ويعرفون أنه على خلق متين، فما ظنك بالبعداء عنه والأبعدين، فكان الله يحثه على الصبر، ويحضه على المضي فيما ندبه له، غير مبال بجمود الجامدين، وغفلة الغافلين، ولا آية بتهديد المهددين، وعدوان العادين، حتى تآمر القوم على قتله غيلة، وتفريق دمه في القبائل. فأمره الله بالهجرة إلى المدينة، وكان قد هدى إلى الإسلام نفرا من أهلها بثوا فيها دعوته. فخرج إليها في جنح الظلام الدامس، وأوى في طريقه إلى غار موحش، فلما تعقبوه ورأوا انقطاع أثره عند ذلك الغار، تآمروا أن يقتحموه، فتهيبوا ذلك لهول ما كان عليه من الظلمة وكثرة الهوام، واستعظموا أن يكون قد أوى إليه الرسول، فتركوه. وخرج صلى الله عليه وسلم وصاحبه قاصدين المدينة، فبلغوها سالمين، فاستقبلهم أهلها باحتفاء عظيم، وعاهدوه على أن يحموه ويحموا دعوته ضد الأبيض والأحمر، حتى يظهر الإسلام أو يموتوا أجمعين.

إيمان راسخ لم يعهد له شبيه في جزيرة العرب، ونزوع مدهش من طائفة ممزقة الأوصال، تكاد لا تكفي وسائلها لحماية نفسها، تنتدب لأن تقف في وجه العالم أجمع ذيادًا عن دعوة لا ينتظر من ورائها مغنم، ولا يتوقع أن يجاوز صداها البقعة التي نقوم عليها وسط شعاب وهضاب لا يعرف العالم لها وجودًا، ولا يسمع عن أهلها ذكرًا.

كل شيء عجيب في هذا الدين، ولا يقبل التعليل بالأمور العادية: رجل يقوم في بيئة هي أبعد البيئات عن النظم الاجتماعية، والأصول العلمية والفلسفية ويدعي أنه أرسل خاتمًا للمرسلين، ليصلح ما فسد من الشرائع، ويعدل ما انعكس من الأوضاع، ويبعث بالروح فيما مات من النفوس، وبالنور إلى ما أظلم من القلوب، فلا يرفع قومه بدعوته رأسًا، فيأوى إلى قوم آخرين هم أقل من قومه عددًا، وأضعف مددًا، فيلهمون أن يؤيدوه، وأن يعرضوا أنفسهم لمعاداة العالم كله، أو على القليل لمعاداة العرب أجمعين.

لا جرم أن هذا مجال بعيد الأرجاء لدراسة حالة نفسية خطيرة ل يسمح تاريخ الاجتماع بمثيل لها، وخاصة في البلاد العربية.

إن أهل المدينة الذين انتدبوا لهذا الأمر الجلل يتألفون من قبيلتين: بني الأوس وبني الخزرج، من القبائل اليمنية التي هجرت ديارها واستقرت في شمال بلاد العرب، وكانت الحرب بينهما دائمة الاشتعال على مثال جميع قبائل العرب، وزاد في اشتعالها نزوح جماعات يهودية من سورية إلى تلك المدينة هربًا من الاضطهاد الديني هناك.

كانت هاتان القبيلتان كسائر القبائل العربية تعيش معيشة أهل البداوة، على الماشية، وما تسمح به الأراضي المجدبة من التمر، وليست على شيء يذكر من الثروة ولا العدد، وليس لها في نظر العرب ميزة تجعلها منيعة لحوزة مرعية الجانب، وكانت كسائر القبائل العربية تحفظ وجودها حيال القبائل المعادية لها بعقد المحالفات والتعاون على دفع الغارات. لخوفها والحالة هذه للدفاع عن دعوة دينية، ظهرت بوادر مزعجة لنفور العرب منها، بما حدث من موقف قريش حيالها، يعتبر مجازفة منها بوجودها، وليس فيما بين يدينا ما يقفنا على سبب هذه المجازفة الجبارة، إن أردنا نفهمها على ضوء الأمور العادية.

لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم الذي مال يطمع في نواله، ولا لأصحابه من الجاه ما يغري أهل المدينة باستثماره، فقد كان أكثرهم فقرًا، ومن كان منهم على شيء من الثروة، تركها وراءه وفر بدينه لا يملك غير نفسه، فما الذي يحفز قبيلتي الأوس والخزرج على الأخذ بناصر قوم على هذه الحال من الفقر وقلة الوسائل المادية؟

اللهم لا شيء غير ما أشرق في قلوبهم من الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وما فاض عليهم من روح الله للقيام بمهمة عالمية كان لا بد منها لتدراك الأمم من الفوضى، والعمران من الخراب في تلك الأيام المظلمة.

ولكن هذه طفرة، نعم: والطفرة محال، نعم، إلا في عهود النبوات حيث يتجلى العالم الروحاني على العالم المادي بواسطة الرسول القائم بالدعوة، فتحدث مفاجآت وخوارق عادات تعتبر من آيات الله الكبرى.

وأي شيء في تاريخ الدعوة الإسلامية لا يعتبر من خوارق العادات؟ إن العشر سنين التي عاشها النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة، تم فيها من الأعمال ما يقتضي كل واحد منها قرونًا متوالية. فقد تم فيها بناء دين، وتأسيس دولة، ووضع دستور، وسنن شريعة، وقيام أمة. وكل عمل من هذه الأعمال تم على أكمل حال، ولم يترك ناقصًا ليتم تدريجيًّا في خلال أجيال متعاقبة، كما جرت عليه الأحوال الإنسانية في الأمور العادية.

ومما يجاب لفت النظر إليه أن الدعوة الإسلامية التي نكصت عنها قريش، وخيل لها أنها تقضي عليها في المهجر الذي أوت إليه، وحذا حذوها العرب أجمعون، ولم يقبل الدفاع عنها إلا قبصة من الرجال، قد تأيدت بروح من عند الله، وبورك عليها حتى طافت المعمور كلها في سنين معدودة، مما لم يحدث مله لدعوة تقدمتها في تاريخ الأمم كافة، وآنت ثمراتها فقبلتها أمم من أصول ولغت وألوان مختلفة، لا تمت إلى العرب ولا إلى لغتهم بسبب.

فأي إنسان يسعه أن يتخيل أن دعوة تقوم في بقعة هي أبعد بقاع الأرض عن العمران، تقوى وتشتد، وتطوف العالم كله، وتأخذ بها شعوب كان يجهل بعضها وجود بعض، وتخترق سور الصين المنيع فيرن لها فيها صدى يسمعه كل من له أذنان؟

على هذا النحو من الإعجاز يؤيد الله الحق، ويعلي مكانته بين الخلق. ومما يجب أن يعلم أن هذه المعجزات المحمدية تبقى ما بقيت السموات والأرض، ويزيدها تقدم العلوم النفسية والاجتماعية قوة على قوتها، وتكون أدلة قاطعة على صدق رسالة محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم.

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.