القصة في الخطابة

   لا بد للخطيب أن يتبع منهجية سليمة في إيراد القصة في الوعظ والإرشاد، وألا يقتدي بالقصاصين[1] الذين يَذكُرون ما هبَّ ودبَّ من القصص؛ لأجل أن يرغب في الخير ويرهب من الشر وتوابعه -كما يزعم البعض- أو أن يجلب ودَّ المدعوِّين والمستمعين إليه، ومما لفَت انتباهي أن بعض الخطباء يردِّد قصصًا واهية بل وموضوعة لا أساس لها من الصحة، ويحاول جاهدًا أن يُرغِّب المدعوين إلى الإسلام، وكأن القرآن والسنَّة خلَت مِن القصص الصحيح، وليعلم الخطيب أن عليه أن يدعو بما يُوافِق الهَدي النبوي، وأن يَسلك الأسلوب الأمثل في الدعوة، وليس عليه أن يتأثر الناسُ بوعظِه أو لا، وألا يقلق لذلك، بل عليه أن يهتمَّ بتطبيقه لما يقول، وموافقته في القول والعلم للكِتاب وسنَّة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وفيما يلي بعض الخطوط الهامَّة تنفع الخطيبَ في إيراده لحكاية أو قصة ما، وسنَذكُر في نهاية البحث بعض ما يردِّد الخُطباء من قصص واهية، وبالله التوفيق.

فوائد القصة:

للقصَّة في الخطابة فوائدُ جمَّة، ولها أثرها في التذكرة والتوعية والإرشاد، فهي قد تُغني عن الكثير من الكلام والحديث[2]، ومن أجل ذلك نجد عناية القرآن بالقصة، حيث تنوَّعت في مواضيعها، واختلفَت في طولها وقِصَرها، وتكرَّرت بأساليب مُتنوعة ومختلفة، ومن فوائدها العامة في الخطابة:

1-الاعتبار: وقد بين القرآن الكريم أن الغاية من سرد قصص الأولين ونهاية الأقوام الظالمة وما حل بها من هلاك ودمار -هو الاعتبار وأخذ الحيطة والحذر من أن يُصيبنا ما أصابهم، قال تعالى: (تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ) [الأعراف: 101].

2-التثبيت على الحق ولزوم الصراط المستقيم؛ قال تعالى: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) [هود: 120]، وكثير من المدعوِّين يجد في القصة زيادة في الإيمان، وثباتًا عليه؛ حيث يعمل مُقارَنة بين ما يُصاب به من بلاء ومصيبة وفتنة، وبين ما يصاب به الأنبياء والرسل والمُصلِحون، فيجد البَون شاسعًا، فيَسعى إلى مزيد من الصبر والتوكُّل والعمل الصالح والاقتِداء في اتِّباع هدي الأنبياء والصالحين في تحمُّلهم للأذى، وفي ثِقتهم بربِّهم وصبرهم على أذى الظالِمين.

والخطيب في حاجة إلى فقه التعامل مع القصة، حتى تؤتي ثِمارها من هداية المَدعوِّين وصلاح معادهم ومعاشهم، وفي أن يَعتبِروا ويتعظوا، وقد عرف أن المدعو يبقى في ذاكرته القصة وينسى ما سواها، ولذا قدم القرآن المعاني الجليلة من عقيدة وأخلاق وسلوك في قالب القصة، وإني أضع خطوطًا عامة للخطيب في إيراده للقصة على المنبر، وما يَنبغي عليه من ذكر فوائدها، وما تؤدي من وظيفة في توعية المجتمع.

أولاً: الاهتمام بقصص القرآن والسنَّة؛ ففيها ما يُغني ويسدُّ حاجة الخطيب، حيث تنوعت الأغراض في إيراد القصة في القرآن من إنذار وتبشير، وتَذكِرة، ودعوة إلى محاسن الأخلاق من صبر، وإيثار، ومحبَّة، وشجاعة، وكرم وجود، ونحو ذلك، فيجد من قصص القرآن رصيدًا نافعًا له في التوجيه والوعظ، والقصة لها حوادث وشخوص وفيها حوارات، والذي يهمُّ الداعية والواعظ من القصة هو مَغزاها والعبرة منها؛ لأن المطلوب أن يمتثل المسلم لما طُلب منه.

ثانيًا: أن يمهد للقصة بالحديث عن الموضوع المراد طَرحُه، يربط بين القصة وموضوع الخطبة، فإن أراد الكلام عن الصبر وآثاره على المؤمن وما له من المنزلة في الإسلام، تناول قصة أيوب – عليه السلام – وصبره على البلاء، أو صبر يوسف – عليه السلام – على الهوى والعِشق، وكيف كانت العاقبة الحميدة له، وإن أراد الكلام في التوبة وفضلها، صدَّر الخطبة بالأحاديث الصحيحة ثم تبعها بقصة من القرآن أو السنَّة مثل قصة يونس – عليه السلام – وآدم – عليه السلام – وكيف كان حالهما بعد التوبة من الهدى والصلاح، أو تناوَل قصة الرجل الذي قتل مائة نفس ثم تاب الله عليه ونحو ذلك.

ثالثًا: أن يَذكُرَ المستفاد من القصة وما فيها من دروس وعبر وعظات؛ لأن ذلك هو المقصود من القصة، ولأن القرآن إنما قصَّ علينا قصص الأنبياء والمرسلين؛ لأجل أن نستفيد منها ونَعتبِر، ومن المُستحسَن أن يكون ذكر تلك الفوائد والعِبَر على شكل نقاط فمثلاً قصة بلعام في قوله: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ*وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ*سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ) [الأعراف: 175 – 177] فيذكر من فوائدها ما يلي:

1-أن العلم إن لم يَقترن بالعمل والتطبيق قد يكون وبالاً على صاحبه وحامله؛ حيث آتاه الله الآيات البينات ولكنه لم يَنتفِع بها؛ لأنه لم يُخلِص العمل لله. 

2-أن حب الدنيا والهوى وإيثارها على الآخِرة قد يُعمي بصيرة الإنسان عن رؤية الحق الواضح واتباعه والانقياد له.

ومن المُستحسَن ذِكر بعض اللمسات البيانية[3] والبلاغية واللغوية في تلك الآية الكَريمة، ولماذا شبَّه الله متبع الهوى بالكَلبِ، وكيف يؤثِّر الجشع والطمع على دين المسلم.

رابعًا: بعض قصص القرآن طويلة، وتتضمَّن مواقف عدَّة؛ ولذا على الخطيب أن يَختار موقفًا مُعينًا يناسِب موضوع الخطبة، ويُسلِّط الضوء عليه لتجليته وبيانه، مثل قصة إبراهيم -عليه السلام- في القرآن، فمن غير المستحسن أن يَسرد الخطيب جميع المواقف وأطراف القصة وتفاصيلها، وإلا طالت خطبته وأصاب المستمعين المللُ والسآمة، وإنما عليه أن يختار حدثًا مُعينًا كامتثال إسماعيل -عليه السلام- لأبيه عندما رأى رؤيا الذبح، وكيف أن الصبر مآلُه إلى الحسنى، وأن العبد يختار مَرضاة الله

خامسًا: يَنبغي أن يكون عرض القصة يتناسَب مع حال المدعوين، وهذا يعتمد على أسلوب الخطيب، فلا يَنبغي الدخول في تفاصيل الحدث ودقائق الأمور، ونسيان القصد والهدف الذي سِيقَتْ من أجله القصة، ألا وهو الاعتبار، ومثال ذلك قصة أصحاب الجنة؛ فالقرآن الكريم لم يتحدَّث عن الموقع الجغرافي، ولا نوع الثمار التي أقسم أصحابها على صَرمِها، ولا عن شخوص أصحاب الجنة ومَن هم؛ لأن ذلك كله ليست له الأهمية في منهج القرآن؛ وإنما المقصود العِبرة والمَقصد والثمرة، والاستطرادُ في تفاصيل القصة يفوِّت على الداعية ثمرتها، وحسبه أن يتلو الآيات ثم يجمل أحداث القصة بأسلوبه، ويعقبها بذكر العِبَر والدروس المستفادة، فيقول مثلاً: يستفاد مما تقدم من قوله تعالى: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ * فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ * كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [القلم: 17 – 33].

1-أن من أسباب زوال النعم أن تمنَع أصحاب الحقوق حقوقَهم كالفقير.

2-مَن يَمكُر يمكر الله به، حيث أراد أصحاب الجنة أن يُخفوا مَكرهم عن المساكين؛ لكنهم لم يستطيعوا أن يُخفوه عن عالِم الغيب والشهادة؛ فليحذر المسلم من ذلك.

3-فائدة الابتلاء وأنه قد يكون خيرًا، حيث يكتشف فيه الإنسان عيوبه وأخطاءه، ويوقظه من غفلته وسُباته، فقد أدرك أصحاب الجنة أن الحرمان الحقيقي ليس هو المال والجاه؛ بل من الإيمان والمعرفة الصحيحة[4].

4-فائدة الدعوة وأثرها على المدعوين في وعظ أوسط أصحاب الجنة، بحيث حذر إخوته من أخطائهم، وأرشدهم إلى سبيل الصواب، فقالوا: (سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِين).

سادسًا: ينبغي ربط أحداث القصة وما ينتج عنها بواقع الناس وحياتهم، وبالسنن الكونية، من ذلٍّ وعزٍّ، ونصر وخذلان، وتقديم الدروس للمَدعوِّين من خلالها، ومن ذلك قصة أصحاب الكهف، وما يستفاد منها من دروس وعِبَر، وألا يكون العرض تاريخيًّا أكاديميًّا، بل يكون وعظيًّا عقائديًّا، فيقول –مثلاً- بعد سرد الآيات من القصة: يُستفاد منها ما يلي

1-أن المؤمن يعمل عقله وفِكره، ويَستعمل وظيفة العقل في التفكُّر بآيات الله التي دعا عباده إلى التأمل فيها؛ لأنها طريق الإيمان والهداية.

2-أن المؤمن الصادق يلجأ إلى الله؛ ليُعينه ويُبصره بطريق الحق؛ ذلك لأن أصحاب الكهف حَرَصوا على الهِداية، ولجؤوا إلى الله حتى آواهم إلى الكهف، وحفظهم من مَكرِ أعدائه، وأسبَغ عليهم نعمة الرحمة والهداية.

3-الشباب والفتوة لهم الدور الكبير في نهضة الأمة، ونشر العلم والدفاع عن تعاليم الإسلام، والواجب هو استغلال عُنفوان الشباب في الطاعة وعمل الخير.

4-لا باس أن يُعرِّج الداعي على بعض الحقائق العِلمية التي تؤيد العلم الحديث في نوم أصحاب الكهف وحفظ أجسادهم، من حيث مرور ضوء الشمس طيلة هذه الفترة كي لا تتعفَّن الأجساد، وتقلُّبهم وهم نيام، ونحوه مما يدلُّ على قدرة الله وحكمته. 

5-وقد يكون من المفيد للخطيب من أجل جلب انتباه المستمعين أن يبدأ خطبته ووعظه بقصة قصيرة سَمعها، أو حادثة مرَّ بها مؤثِّرة لها علاقة بواقع الناس في معاشِهم، ثم يَمضي بعد ذلك مُسترسِلاً يُذكِّر ويُحذِّر، وينبِّه وبما يُناسِب الحال والمقال، ويربط ذلك كله بمعاني التوحيد والعقيدة الصحيحة؛ كي يَخرج المستمعون وقد وضح المقصود، وتبيَّن المطلوب؛ من أجل أن يطبقوه في حياتهم، ويسعدوا في مجتمعهم.

قصص واهية يردِّدها بعض الخطباء:

اعتاد بعض الخطباء أن يذكر قصصًا واهية؛ لأجل ترغيب المدعوين في الخير، وترهيبهم من الشر، وكأن القرآن والسنَّة وكتب السير والتراجم خلَت من القصص الصحيح الهادف المُمتع، ونذكُر بعضًا من قصص يردِّدها الواعظ على المنبر؛ من أجل الحذر من روايتها:

1-ذكَر وهب بن منبه قال[6]: بَنى جبار من الجبابرة قصرًا وشيَّده، فجاءت عجوز فقيرة فبنت إلى جانبه كوخًا تأوي إليه، فركب الجبار يومًا وطاف حول القصر فرأى الكوخ، فقال: لمن هذا؟ فقيل: لامرأة فقيرة تأوي إليه، فأمر به فهُدم فجاءت العجوز فرأته مهدومًا، فقالت: مَن هدمه؟ فقيل: الملك رآه فهدَمه، فرفعت العجوز رأسها إلى السماء، وقالت: يا رب، إذا لم أكن أنا حاضرة، فأين كنت أنت؟ قال: فأمر الله جبريل أن يقلب القصر على من فيه، فقَلَبه.

وهذه القصة مُنتشرة في المنتديات، ويلقيها الخطباء والوعاظ وكأنها حديث من صحيح البخاري ومسلم، وخاصة أيام العيد، وعندما يجلس أمامهم صاحب مكانة مَرموقة، أو صاحب مركز وكأنهم بذلك يتحدَّونه بدلاً من نصحِه وتحريك مكامن الخير وقمع نوازغ الشر فيه.

2-قصة علقمة مع أمه[7]: والتي يُستدلُّ بها على عقوبة عقوق الوالدين؛ حيث امتنع عن النطق بالشهادتين؛ لتفضيل زوجته على طاعة والدته، وهذه القصة لم تَثبُت، ولا يوجد لها إسناد صحيح، فلا تحل روايتها، ولا إذاعتها في مجلس أو خطبة، أو تدوينها في كتاب أو سفر أو رسالة، ومن يفعل ذلك، فإنه يعمل على نشر الأحاديث والقصص الواهية، وفي صحيح السنَّة وآي الكتاب في بابها ما يُغني.

3-قصة ثعلبة بن حاطب[8]: يُردِّدها كثير من الخطباء والوعاظ على المنابر عندما يفسِّرون قوله تعالى: ( وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)[التوبة: 75- 77]، وهي عند النقد الحديثي من ناحية سنَدِها ومَتنِها لا تثبت، بل هي باطِلة؛ لمخالفتها لصريح القرآن والسنة في عدالة أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومكانتهم العَليَّة ومقامهم الرفيع. 

4-قصة ثعلبة بن عبد الرحمن الذي أسلم[9]: الذي كان يخدم النبي – صلى الله عليه وسلم – فبعثه في حاجة، فمرَّ بباب رجل من الأنصار، فرأى امرأة الأنصاري تغتسل، فكرر النظر إليها، وخاف أن ينزل الوحي على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فخرج هاربًا على وجهه، وهذه القصة سندها مسلسل بالضعفاء، وفي متنِها ما يدلُّ على نكارتها، فلا يجوز روايتها ولا التحديث بها إلا مع بيان ضعفها، وكونها تتعلق بالرقائق لا يجيز التساهلَ في شأنها؛ لأن إسنادها شديد الضعف، وقد اشترط العلماء الذين أجازوا رواية الحديث الضعيف في أبواب الرقائق ألا يكون شديد الضعف، وليس فيه ما يُستنكَر، وهذا باب يطول ذكره.

جوامع نافعة في إيراد القصة:

ما من أمر يهمُّ حياة الناس في معاشهم ومعادهم وعلاقة بعضهم ببعض إلا وفي كتاب الله وسنَّة رسوله ما يدلُّ عليه أو يُشبهه أو قريب منه، وله من القصص القرآني والنبوي ما يستدلُّ به عليه، وهذه نماذج يُمكن للداعي الفَطِن والخطيب الكيِّس أن يمشي على منوالها، ويسلك طريقها:

1- في الصبر على الابتلاء يستدلُّ بقصة أيوب -عليه السلام -وفي الصبر على دواعي العِشق وعفَّة النفس عن الحرام يستدلُّ بقصة يوسف -عليه السلام -فرغم توافُر الداعي وقوة الإغراء فقد صبر عن دواعي النفس الأمارة بالسوء، ومن السنَّة النبوية يستدلُّ بقصة أصحاب الأخدود.

2- في التوبة وفضلِها يستدل بتوبة يونس -عليه السلام -وأنه كان بعد التوبة أفضل مما قبلها؛ لما ترتَّب على التوبة من الذلِّ والعُبودية، ومعرفة عُيوب النفس، ويستدلُّ من السنَّة بقصة الرجل الذي قتل مائة نفس؛ ولكن لحبِّه للتوبة ورغبته فيها وُفِّق إليها.

3- في الولاء والبراء وأثر العقيدة -الصحيحة-على المؤمن، وكون طاعة الله أعظم عنده من محبة الأهل والمال والنفس يستدلُّ بقصة نوح -عليه السلام -وأن ولده لما اختار الكفر على الإيمان لم ينفعْه قربُه من أبيه، وكذا قصة إبراهيم مع أبيه ودعوته إلى الحق، فلما تبيَّن عُدوله عن الصواب تبرَّأ منه. 

4- في الإيثار والمحبة الصادقة يستدلُّ من قصص السيرة ما دار بين الأنصار والمهاجرين من تعاون ورحمة، وما سجَّله التاريخ لهذه الثُّلة المؤمنة والمُجتمع الفاضل من محبة وصدق وإيثار ومَعونة؛ حيث عجز علماء النفس عن تفسير ذلك بغير الإيمان واليقين والوازع الديني.

5- في أداء الأمانة وردِّ الودائع يستدلُّ من السنة على قصة الرجل الأمين والألف دينار، أو خشبة المُقترض، وهي في الصحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه -ويُستفاد منها ما يلي:

1-فضل التوكُّل، وأن من حَسُنَ توكُّله تكفَّل الله بنصره وإعانته.

2-أهمية حسنِ الظن بالله، وأن الله عند حسن ظنِّ عبده به.

3-عظيم فضل الأمانة في الإسلام، والواجب مراعاتها والاهتمام بها، وأن ضياعها إمارة على قرب الساعة.

ولو تتبع الخطيب قصص القرآن والسنَّة؛ لوجد لديه رصيدًا لا يُحصى يُمكنه أن يستدل به ويستشهد على ما يقول ويتحدَّث ويَعِظ، ومن الكتب النافعة (رياض الصالحين)، ففيه الكثير من الأحاديث -الصحيحة- الصريحة المتضمِّنة قصص الأولين، وليحذر من كتب الصوفية الممتلئة من قصص الخرافات والخزعبلات في الزهد والورع الفاسد، وكرامات الأولياء والمبالغة في ذلك إلى الوقوع في الشرك والمخالفة للعَقل والنقل. 

وتعتبر سيرة الصحابة –الكرام- والتابعين[10] لهم بإحسان مثل سيرة أبي بكر الصديق وحبه للإسلام ورسوله وصدقه في القول والعمل، وسيرة عمر بن الخطاب وشجاعته وقوة يقينه، وصُهيب الرومي وبذله للمال في سبيل الهِجرة، وعمار بن ياسر وصبره على العذاب، وكعب بن مالك وتوبته الصادقة، وخالد بن الوليد وجهاده لأعداء الله، وعمر بن عبدالعزيز وزهده وورعه، والعز بن عبدالسلام وحثه للأمة على الجهاد، وقصص الأئمة الفقهاء المجتهدين في الدين ومَن بعدهم – مادةً خصبة للواعظ وقصصًا هادفة يُمكنه أن يدعم بها فكرته، ويؤيد حُجَّته، فإن هؤلاء الرجال العِظام بهم قام الدِّين وفُتحت البلاد، وهم قدوة حسنة للمسلم في سلوكه وعمله وعلاقته مع الناس أجمعين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه..

———

[1] الأصل في القاصِّ المدح، وعليه دلت النصوص الشرعية، ولكن دخل القصص من لا علم له والكذب في الحديث والنقل دون تثبُّت والمبالغة في سرد القصة، ومن ذلك حذر أئمة الحديث منهم، يقول ابن الجوزي: "والقُصَّاصُ لا يُذَمون من حيث هذا الاسم، وإنما ذُم القُصَّاصُ لأن الغالب منهم الاتساع بذكر القَصَص دون ذكر العلم المفيد، ثم غالبُهم يُخَلِّط فيما يورده، وربما اعتمد على ما أكثره مُحال" انتهى؛ تلبيس إبليس (ص: 134)، وقال الإمام أحمد: "القصاص الذي يَذكُر الجنة والنار والتخويف وله نية وصدق الحديث، فأما هؤلاء الذين أحدَثوا من وضع الأخبار والأحاديث، فلا أراه"؛ انظر الآداب الشرعية لمَرعي الحنبلي (2: 85).

[2] مما يدلُّ على أهمية القصة في الخطابة أن المُستمِع تبقى في ذاكرته ويستمع بالإصغاء لها؛ ولذا وجب على الخطيب الاعتناء بها والتأكُّد من صحتها؛ لأنه مأمون.

[3] الكلب لا يُخزِّن الهواء في رئتيه كما هو معروف؛ بل يأخذ الهواء ويَزفره بشكل مستمر، وقلة الأكسجين تسبِّب له اللهث، هكذا هو المتبع هواه في كل حالٍ، وهذه صفاته التي يُصوِّرها الله بأوضح مثالٍ فيقول: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) [الأعراف: 176]، (إنه تشبيهٌ دقيقٌ مبينٌ، وصورةٌ صارخةٌ لهذا الكائن المهين، فهو رجلٌ حذرٌ قلقٌ، بَطِرٌ نَزِقٌ، موزَّع القوى مُتمزِّقٌ، مُضطرب العيون محدقٌ، إن جئته بالسلام لهَث وعوى، وإن لوَّحت له بالملام لهث وانزوى، وإن أظهرت له اللِّين نفر واعتدى، وإن قطَّبت له الجبين كشر واشتكى، فتبًّا له من حلافٍ مهينٍ، همازٍ مشاءٍ بنميمٍ، مناعٍ للخير معتدٍ أثيمٍ، عُتلٍّ بعد ذلك زنيمٍ، وهو مع كل هذه القسوة والجنون، سيِّئ الظنون، ضعيفٌ مفتونٌ، يسقط عُتوه للشهوة، ويذل خيلاءه للذة، ويستعبده الريال، ويقوده حب الأوحال، فهو في سبيل ذلك يرتكب أسوأ الأفعال، ولا يَرعوي عن أردأ الأعمال، وكاذب الأقوال (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) [الأعراف: 176])، بقلم: إسماعيل حسين الكبسي انظر موقع هنا القران.

[4] استفدتُ من بحث للشيخ مصطفى العدوي عنوانه: (قصة أصحاب الجنة)، نشر في بعض المنتديات.

[5] انظر مثلاً بحث (تأملات تربوية في قصة أصحاب الكهف)، د: عثمان قدري، و(القواعد التربوية كما تظهرها القصة القرآنية في سورة الكهف)، إعداد: يزن أحمد يوسف عبده، والمؤلفات في الموضوع لا تُحصى.

[6] بعض هذه الفوائد مُستَقاة من بحث (فوائد من قصة أصحاب الكهف) جمع: دلال العقيل، من موقع المسلم، ويُمكن للواعظ أن يَستخرِج من القصة فوائد جمَّة تنفَع المستمع، وقد ذكر الأستاذ عبد الكريم زيدان في كتابه (أصول الدعوة) الكثير مما يهمُّ الداعية والواعظ من تلك القصة القرآنية، وللشيخ الهلالي كتاب نافع في الموضوع عنوانه: (إتحاف الإلف بذكر الفوائد الألف والنيف من سورة يوسف -عليه السلام-(.

[7] ذكرها أبو نعيم في الحلية (4: 66) والله أعلم، وأوردها الذهبي في الكبائر (ص: 107) مُرسلة عن وهب بن منبه، ولم أجد تلك القصة في الكتب الحديثية المعتمدة بعد طول بحث، وقد تكون من الإسرائيليات، وفي القصص القرآني ما يُغني عنها.

[8] ابن الجوزي في كتابه الموضوعات (3: 87)، وقال: هذا لا يصح، وذكرها الشوكاني في الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة رقم231 وانظر: (قصص لا تثبت)، للشيخ مشهور حسن سلمان، القصة الحادية والعشرون، وانظر بحث بعنوان (قصة علقمة مع أمه لا تثبت)، للكاتب عبد الله بن محمد زقيل، وفوق ذلك كله فالقصة تصادم النصوص -الصحيحة-الدالة على قبول التوبة النصوح.

[9] انظر كتاب (الشهاب الثاقب في الذب عن الصحابي الجليل ثعلبة بن حاطب)، للشيخ سليم بن الهلالي، ففيه ما يغني.

والقصة لا تثبت؛ لأدلة، منها سنَدها، ومنها كون ثعلبة صحابيًّا جليلاً، ومخالفة القصة للتاريخ، حيث ثبَت أن فرضية الزكاة في السنة الثانية للهجرة، وسورة التوبة من آخر ما نزل من القرآن، قال الشيخ الفاضل السكران التميمي في الألوكة بعد إيراد القصة وأقوال علماء الحديث فيها: "وعليه، فهذه القصة باطلةٌ مكذوبة مفتعلةٌ لا تصحُّ ولا تَثبت"، وصدق الإمام ابن الجوزي لما قال: "هذا حديث موضوع شديد البرودة"، وأكاد أجزم أن آفته هو منصور بن عمار، فقد تفرَّد به كما أشار إلى ذلك الحافظ ابن منده، ومنصور هذا ليس ممَّن يُحتمَل منه التفرُّد ولا كرامة، وما وصَفَه الإمامُ الحجة سفيان بن عُيَينة بالشيطان عبثًا، فتأمل، ومن قرأ عنه في تاريخي بغداد ودمشق أثناء ترجمته، عرف دجل هذا الرجل وجرأته، ناهيك عن ضعف وخلل كثيرٍ من عبارات القصة"، انتهى، وانظر الإسلام سؤال وجواب رقم (44877)، وثعلب بن حاطب المفترى عليه، وتخريج الحديث على موقع أهل الحديث.

[10] مِن أنفع الكتب في هذا المجال والتي ينتفع منها الخطباء والوعاظ: (رجال حول الرسول -صلى الله عليه وسلم-) لخالد محمد خالد، فهو نافع بالرغم من وجود بعض الأخطاء، و(صور من حياة الصحابة)، للدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا، وهو مناسب جدًّا للخطباء، و(فرسان من عصر النبوة) من 880 صفحة. 

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.