روحانية الحج

أيها الإخوة الكرام.. أيتها الأخوات الكريمات.. حجاجَ بيت الله، الذين أنابوا إلى ربِّهم، واستجابوا لنداء الخليل إبراهيمَ حين أذَّن بأمر ربِّه في النَّاس بالحج، فانطلقوا من ديارهم، وتخلصوا من معوقات الدنيا، وهرعوا إلى الله وحده، بعد أن تلقوا الدعوة منه؛ الدعوة التي آثرهم الله بها، وألقاها إلى قلوبهم وأفئدتهم، فتحركوا شوقًا ومحبة واستجابة لأمر الله، فانبعثوا مُلَبِّين دعوة خالقهم وسيدهم: لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك..

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،

وبعد:

فها هو موسم الحج قد أظلنا بظلال الأمن والأمان من الأرض المباركة التي أَهْدَتْ إلى العالم أعظمَ رسالة وأصدقَ راية، وفيها تَعْذُبُ المناجاة، وتحلو الطاعة، ويسري نورُ الإيمان بين الجوانح، ويشعر المسلم أنه فوق عالَم البشر، يُجَنِّح مع الملائكة الكرام؛ فالذنبُ مغفورٌ، والسَّعيُ مشكورٌ، وكلُّ خطوة يخطوها الحاجُّ تكتب له ملائكةُ الرحمة بها حسنةً، وتضع عنه بها سيئة.

أيها الحجاجُ الكرام: هاأنتم تلبُّون راجين، وتسعَوْن محبين وطائعين، وتطوفون مذعنين ومشتاقين، وترمون مللِّين، وتصعدون وتهبطون مكبِّرين؛ فيجيب الحق –جل وعلا- كلًا منكم: لبيك عبدي وسعديك، والخير بين يديك.

إخواني الكرام: إن الحجَّ تهذيبٌ للنفس، وتطهيرٌ للقلب، وغسلٌ لأدران الشر، وهو تلاق اجتماعيٌّ، وتعارفٌ إسلاميٌّ، واجتماعٌ للنفوس المؤمنة على مودةٍ ورحمةٍ ورُوحانيةٍ في ظل البيت المقدس، وفي الأماكن المطهرة.

فلنتجول معًا –أحبتي الكرام- مع رُوحانية الحج في سائر أعماله؛ لنرتشف عشرًا من نسمات الروحانية في هذه الشعائر العظيمة، آملين في وجه الله الكريم أن يجعلنا من المقبولين.

أولًا: الاستعداد للحج

يبدأ الاستعداد للحج بالتوبة النصوح، وتجديد النية والإخلاص لله رب العالمين، فكلُّ ذنب أو مظلمةٍ هي غريمٌ حاضرٌ متعلِّقٌ بتلابيب العبد، ينادي عليه ويقول: إلى أين تتوجه؟ أتقصد بيتَ ملك الملوك وأنت مُضيِّعٌ أمرَه في منزلك ومستهينٌ به ومهملٌ له؟! أَوَلَا تستحي أن تقدم عليه قدوم العبد العاصي فيردك ولا يقبلك؟!

فإن كنت راغبًا في قبول زيارتك فنفِّذ أوامر الله –عزَّ وجل-، ورُدَّ المظالِمَ، وتُبْ إليه أولًا من جميع المعاصي، واقطع عَلاقة قلبك عن الالتفات إلى ما وراءك؛ لتكون متوجهًا إليه بوجه قلبك، كما أنك متوجه إلى بيته بوجه ظاهرك، فإن لم تفعل ذلك لم يكن لك من سفرك أولًا إلا النصبُ والشقاءُ، وآخرًا إلا الطَّردُ والرَّدُ، ومن ذا الذي يرضى لنفسه بهذا الخسران؟!

ثم احرصوا –أيها الأحبة- على آداب الرفقة والسفر، من بذل المعروف والإحسان، والكف عن الإساءة، وحسن الصحبة، وترك الرفث والفسوق والجدال، والتواضع للرفقاء، وخدمة الإخوان، وحمل الضعفاء، والتغافل عن الزلات والهفوات، والحرص على سلامة القلب واللسان، فقد قيل: أفضلُ الحجاج: أخلصهم نيةً، وأزكاهم نفقةً، وأحسنهم يقينًا.

واذكروا أنكم في سفركم هذا كالمجاهدين في سبيل الله، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وفد الله ثلاثة: الغازي، والحاج، والمعتمر».

وما ينبغي لوفد الله تعالى إلا الكمال في كل المحاسن، فحسِّنوا أخلاقكم، واصبروا على ما تلقون من المشقات والشدائد، وما تواجهون من المصاعب، واحتسبوا عند الله ذلك كله، والله يتولى أمركم وهو يتولى الصالحين.

جعلنا الله وإياكم من التائبين المقبولين الفائزين.

ثانيًا: الإحرام

إن الروحانية تبدأ فتسيطر على مشاعر وأحاسيس مريد الحج عندما يبتدئ بالإحرام الذي هو الركن الأول من أركان الحج؛ إذ ينوي الإنسانُ الحج في ميقاته. وميقات الحج: هو المكان الذي يُحرِم منه الحاج، ويلبس ثيابَ الإحرام فيه، وكل جهةٍ من الجهات الأربع للحرم لها ميقات، أي: مكان معلوم يبدأ الحجاج الإحرام منه، ولا يصح لقاصد الحج أن يَمُرَّ من ميقات من هذه المواقيت المكانية للحج بغير إحرام، وكأنَّ هذه الأماكنَ التي تحيطُ بالحرمِ المقدَّس إحاطةَ هالة الشمس بها هي حدودٌ بين متاع الدنيا وأعراضها؛ وحياة الروح ونعيمها، فهي حدود للمكان الذي جعله الله تعالى لضيافته الروحية، يستضيف فيه عبادَه المؤمنين الذين جاءوا إليه من مشارق الأرض ومغاربها، نازعين من قلوبهم وأجسامهم كلَّ مظاهر المادية؛ ليتجرَّدوا بأرواحهم، وينالوا شرف الضيافة على تلك المائدة الربانية، وذلك الغذاء الروحي.

إن عبارات النبي صلى الله عليه وسلم في نيته الإحرام، تعلمنا كيف نتخلص من أهواء الدنيا، ومن الطبائع الأرضية في نفوسنا، لنتعلق بأسباب السماء، فقد كان صلى الله عليه وسلم يقول في إحرامه: «اللهم حجةً لا رياءَ فيها ولا سُمْعَة»[2]. ويقول أيضًا: «لبيك حجًّا حقًّا، تعبدًا ورقًّا»[3]، ويكرر ذلك؛ لنتعلم منه صلى الله عليه وسلم كيف نخلص أنفسنا من الرياء والسمعة.

والرياءُ آفةُ العبادة، وهو الذي يبعدها عن الدرجات العالية في الروحانية، وهو في ذاته الشركُ الخفيُّ؛ ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك»[4].

بهذا الإحرام تدخل أيها الحاجُ المؤمنُ في محيط الرُّوح، وفي متسع الضيافة؛ ولذلك وجب عليك أن تعلن أنك قد دخلتَ في هذا الوادي المقدس، وادي الرُّوح، وادي الضيافة الإلهية؛ ولذلك تقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.

بهذا النداء الذي هو إعلان الحج، أو مظهر الروحانية فيه، يكون الشخص قد دخل في مقام الضيافة، وانتقل من دركات الأرض إلى المنازل الرُّوحية، وكأنه بِحَجِّه قد أجاب داعيَ الله تعالى إذ دعاه إلى تلك المائدة المقدسة؛ وإنه ليكرر تلك التلبيةَ في كل مرتفع وكل منخفض؛ ليكون في تذكرٍ دائمٍ، ولكيلا ينسى أنه في الحضرة الإلهية، وفي الضيافة الرحمانية.

إخواني الأحبة قاصدي بيت الله الحرام: ينبغي أن يتذكر الحاج أنه إذ يحل في تلك الضيافة الرُّوحية فإنه يجب أن يترك مظاهرَ الزينة، وما اختُصَّت به الحياةُ الأرضيةُ؛ فقبل أن يعقد النية والإحرام: يغتسلُ ويتطهرُ ويستكملُ أسبابَ النظافة، ثم يصلي ركعتين، ثم يحرمُ بالتلبية مع بداية انطلاقه من الميقات، فإذا أحرم فلا يتطيب ولا يتزين ولا يقص شعره ولا يحلقه؛ وذلك لأنه في حال تجرد رُوحي، فلا يصح أن يُشغَل عنه بمظاهر مادية؛ ولأن حياة الرُّوح توجب المساواة؛ إذ الجميع سواء أمام عظمة الخالق، ولا فضل لعربي على أعجمي، ولا لقوي على ضعيف، ولا لغني على فقير.

كما ينبغي أن يتذكر بملابس الإحرام كفنَه الذي يلقى به ربه الكريم، وما أشبه الثوبين والرحلتين؛ إلا أن الرحلة اليوم هي رحلة للعمل، وهي غدًا رحلة لنيل ثواب العمل، وعلى قدر الصدق والإخلاص في الرحلة الأولى يكون الأجر المدخر في الرحلة الأخرى. الرحلة اليوم هي إجابة طوعية لنداء الخليل إبراهيم عليه السلام حين أذَّن في الناس بالحج كما أمره ربه، أما الرحلة غدًا فهي استجابة قهرية لنداء إسرافيل حين يؤمر بأن ينفخ في الصور.

ومما ينبغي أن لا يفوتك أيها الأخ الكريم، أن تتذكر دوامًا أنك بالإحرام قد دخلت في عبادة الحج، فأكثر من التلبية، وجدِّدْها عند اجتماع الناس، وعند كل صعود، وعند كل هبوط، وعند كل ركوب، وعند كل نزول، رافعًا بها صوتك بصورة معتدلة، فإنك لا تنادي أصمَّ ولا غائبًا؛ وإنما تنادي سميعًا بصيرًا، وأكثر مع التلبية من التكبير عند كل مرتفع، والتسبيح عند كل منخفض، فتلك هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

فليتذكر كلُّ حاج هذه المعانيَ عند الإحرام؛ حتى يبدأ النسك على الوجه الأكمل، وعلى النحو الْمُرضي إن شاء الله. نسأل الله أن يجعلنا يوم الفزع الأكبر من الآمنين.

ثالثًا: عند الوصول إلى مكة

إن الحاج ليرى في طرقات البلد الحرام في هذه الأيام المباركة عجبًا، فحيثما قلبتَ ناظريْك أيها الحاج الكريم في أرجاء البلد الحرام رأيتَ ثَمَّ موكبًا من مواكب الله، وقافلةً من قوافل الإيمان، وجيشًا من جيوش الحق، وجندًا من جنود اليقين، هديرُهم تكبيرٌ، وهتافُهم تسبيحٌ، ونداؤُهم تلبيةٌ، ودعاؤُهم تهليلٌ، مشيُهم عبادةٌ، وزحفُهم صلاةٌ، وسفرُهم هجرةٌ إلى ربهم، وغايتُهم مغفرةٌ من الله ورضوانٌ، تراهم في حشدهم صورةً متكاملةً متناسقةً في إطار نوراني على اختلاف الأجناس، وتباين اللغات، وتغاير الأوطان.

اجتمعوا على كلمة الله تعالى، والْتأموا في بيت الله، والتحموا أمام الله في رحمة وعطف وحنان، شعار كل فرد منهم: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِين} [الحجر: 88]، مظهرهم كأنهم بنيان مرصوص، تركوا البلاد والديار والأهل والأولاد، والتجارات والأعمال، لم تسُقْهم قوةٌ قاهرةٌ، ولم تجبرهم قوانينُ دنيوية؛ بل جاءوا مدفوعين بدافع من أعماقهم، منبثق من وجدانهم، نابع من فيض إيمانهم، ومعين يقينهم، قطعوا الفيافي والقفار، واجتازوا الجبال والوديان، وعبروا البحار والأنهار، وطاروا على متن الهواء، قاصدين بيت الله الحرام، يعيشون في رحابه، وينعمون بقدسيته، متشرفين بضيافته، متلمسين لرحمته، مستهدفين المغفرة، مستمطرين الرضوان، كما قال ربهم: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125].

فلتتذكر أيها الحاج الكريم، أيتها الحاجة الكريمة أن هذا البلد الأمين هو البلدة التي جعلها الله حرمًا آمنًا، لا يُنَفَّرُ طيرُه، ولا يُقْطَع شجرُه، ولا يُخَوَّف ساكنُه ولا نزيلُه، ولا يُصَاد صيدُه، فنَزِيلُه لا بدَّ أن يكون في سلامٍ مع نفسه ومع الآخرين من الناس والشجر والدواب والطير، فمَنْ أحدث فيها حدثًا أو فعل فيها محرمًا أو آوى فيها مُحْدِثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً.

إن نزول هذا البلد المقدس تدريب عظيم على ممارسة السلم الذي هو شعار الإسلام العظيم، فعيشوا أيها الحجاج هذه الأيام الكريمة في واحة الأمن والسلام، باذلين المعروف، صابرين على المكروه، آمنين في أنفسكم، مسالمين لغيركم، وإذا دعتك نفسك أيها الحاج إلى محرم أو إلى اعتداء على غيرك فاذكر أن الله تعالى يعاقب في هذا البلد الحرام على مجرد الإرادة للشر؛ فضلاً عن فعل الشر نفسه، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25].

وإذا كنتم معاشر الأحبة تحجون إلى حرم الله الآمن؛ فلتتفكروا في منازل الوحي، ومدارك النبوة، والعهد الأول للإسلام، ولتذكروا كيف كان صبره صلى الله عليه وسلم في الشدائد، وكيف كان دفعه للمكايد، وكيف كان قويًّا في إيمانه، وهو الذي لم يكن له ناصر إلا الله بين قومٍ توافرت لديهم أسباب الغلب المادي، وظنوا أنهم مانعتهم أموالهم وأولادهم وقوتهم من أمر الله، فجعل الله عاقبتهم خسرانًا وبوارًا، وجعل عاقبة صبر نبيه صلى الله عليه وسلم وتمسكه بدعوته نصرًا وفوزًا مبينًا.

وفي ذلك عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فيعرف كيف يكون الاعتزاز بالله هو الملجأَ عندما تتكاثر عليه الأعداء، ويتضافر عليه الأقوياء، وتكثر الضراء، وتقل السراء، وتتزلزل القلوب إلا من عصم ربك.

ثم اذكر أخي الحاج أختي الحاجة وأنتما تسيران في طرقات البلد الحرام آمنين مطمئنين، اذكرا البلدَ المباركَ الذي بارك الله حوله، بيتَ المقدس، القدسَ الشريف الذي يشكو إلى ربه ظلمَ اليهود الظالمين، وعجزَ المسلمين المتخاذلين، واذكروا كيف يعيش أهله من إخوانكم تحت سياط القهر والخوف، فتضرعوا إلى الله في إخلاصٍ وإخباتٍ وخشوعٍ بالدعاء أن يفك الله أسْرَ هذا البلد المبارك؛ ليلحق بأخويه مكة والمدينة، وأن يكتبَ لأهله ونازليه الأمنَ في ظل الإسلام الحنيف، وأن يحفظه، وأن يثبت المجاهدين من أهله، ويربط على قلوبهم حتى يتم لهم النصر الموعود إن شاء الله.

نسأل الله العظيم أن يبلغنا حرمه الآمن أعزةً مطمئنين، وأن يكتب لنا الأمن في الدنيا ويوم الدين.

رابعًا: عند الوصول إلى البيت الحرام

البيت الحرام أيها الأحبة الكرام هو بيت العز والشرف، بيت المجد والكرم، بيت الرجاء والأمل، واحة الضال، وهداية التائه، وملجأ القاصد، وملاذ الخائف، ومقام الطائف والعاكف، من دخله كان آمنًا، في جنباته الطهر والنقاء، وعلى أبوابه البذل والعطاء، وبين أركانه الجود والسخاء، فالأجر فيه مضاعف، والجزاء موفور، والذنب مغفور، والسعي مشكور، عند ربٍّ لا تُغلق رحابُه، ولا تُسدُّ أبوابُه، لا يُخيب سائلاً، ولا يرد طالبًا، فهو الحليم الذي لا يعجل، والكريم الذي لا يبخل، وفي ميدان هذا البيت يتجلَّى الإسلام في أروع صورة، وأبدع مظهر، جموع تطوف وتطوف، وفئات تصعد وتنحدر بين الصفا والمروة، وأنفاس تتلاحق بالذكر والدعاء، وأيادٍ مرفوعة ممدودة بالسؤال والرجاء، وعيون دامعة، وقلوب خاشعة، وألسن ضارعة بالذكر والقرآن، فكن أيها الحاج الكريم عند البيت على صورةٍ من هذه الصور، وفي حالٍ من تلك الأحوال، ولا تضيع هذه الفرصة وأنت في حالة القرب، وفي موطن القبول، ولا تنشغل بالصور والأشكال عن الحقائق، ولا تُحدثْ في هذا البيت محرمًا، ولا تؤذِ أحدًا، ولا يفتر قلبك ولسانك عن الذكر والدعاء والابتهال.

وليتذكر كل حاج عندما يصل إلى البيت الحرام أنه قد انتهى إلى حرم الله تعالى آمنًا، وليَرْجُ عنده أن يأمن بدخوله من عقاب الله -عزَّ وجلَّ-، ولْيَخْشَ أن لا يكون أهلاً للقرب، فيكون بدخوله الحرم خائبًا ومستحقًّا للمَقْت، وليكن رجاؤه في جميع الأوقات غالبًا، فالكرم عميم، والرب رحيم، وشرف البيت عظيم، وحق الزائر مَرْعِيٌّ، وذمام المستجير اللائذ غير مُضَيَّع.

ثم اذكروا إخواني وأخواتي حجاج بيت الله الحرام وأنتم تدخلون المسجد المقدَّس شقيقَه المأسورَ المسجدَ الأقصى المباركَ، الذي ربط الله بينه وبين المسجد الحرام برباطٍ وثيق، حين أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلم ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عُرج منه به صلى الله عليه وسلم إلى السماوات العلا؛ حتى كان من ربه قاب قوسين أو أدنى، وأوحى الله إليه هنالك ما أوحى، اذكروا هذا المسجد الأقصى المبارك في دعائكم، واجتهدوا في الدعاء أن يفك الله أسره، وأن يحفظه من كيد اليهود المجرمين، وأن ينصر أهله والمدافعين عنه، وأن يلحقه بأخويه المسجد الحرام والمسجد النبوي في الأمن والأمان، والسلامة والإسلام.

كتب الله لنا ولكم والقبول، وهيأنا وإياكم لكل خير، إنه على كل شيء قدير.

خامسًا: الطواف

حين تصل إلى البيت الحرام أيها الحاج الكريم؛ فإنك تبدأ بالطواف؛ سواء كنتَ حاجًّا فتطوف طواف القدوم، وهو سنة، أو معتمرًا فتطوف طواف العمرة، وهو ركن، أما الطواف الذي هو ركن الحج، وهو طواف الإفاضة، فيكون بعد العودة من عرفات، ومن خلال الطواف نتعلم النظام، ونتدرب على التعاون، وإنكار الذات، ونتلقَّى دروسًا عملية في الآداب، والمروءة، والحب، والعطف، والحنان، ونؤمن بأن التوجيه الديني أسمى من أي توجيه، فأي توجيه تكون له مثل هذه الفعالية؟ إن الجيوش تحتاج إلى ربط وإحكام، وضبط ودقة، بعد تدريب متواصل، وإشراف حازم؛ إلا أننا نرى الحجيج -على كثرتهم واختلاف أجناسهم وتباين لغاتهم- يسيرون في اتجاه واحد، وارتباط وتآزر، ووحدة وتكاتف، ووسط التلبية الهادرة، والأصوات العالية، إذا أذن المؤذن سمعوا الأذان، ولبوا النداء، فإذا بالجميع وقوف كأنَّ على رءوسهم الطير، لا تسمع حينئذ إلا همسًا، ولا ترى إلا أجسامًا منظومة، وأقدامًا مصفوفة، إذا ركع إمامهم ركعوا، وإذا سجد سجدوا، وإذا قرأ أنصتوا، وإذا دعا أمَّنوا.

إنها صورةٌ من صور الجمال، والحسن والجلال، ومشهد من مشاهد الكمال، فلْتَأْتِ الدنيا كلُّها لتُطِلَّ على هذا المنظر البديع المتناسق، وليشهد الوجودُ كله بأن الإسلام هو دين النظام، ودين التضامن، ودين الألفة، ودين الحياة.

ثم اعلم أيها الطائف الكريم أن الطواف صلاةٌ غير أنه أُبيح فيه الكلام؛ ولذلك يلزمك الطهارةُ للطواف من الحدثين الأكبر والأصغر، كما يلزمك طهارةُ الثوب وسترُ العورة، ولا يحل طوافُ غير المتطهر، وما دام الطواف صلاةً فأحضرْ في قلبك فيه من التعظيم والخوف والرجاء والمحبة ما يليق به، ولا تنشغل بالكلام الفارغ؛ بل اعلم أنك بالطواف متشبه بالملائكة المقربين الحافين حول العرش الطائفين حوله، فاجتهد أن تشغل قلبك ولسانك بالذكر والدعاء والاستغفار والقرآن والتضرع، وكن ملائكيًّا، ولا تنشغل بغير الله تعالى، وإياك وإيذاءَ الطائفين بلسانك أو بجوارحك، وإياكَ والتضجرَ من الزحام أو من الطائفين والعاكفين.

ولا تظنن أن المقصود طواف جسمك بالبيت فحسب؛ بل المقصود طواف قلبك بذكر رب البيت؛ حتى لا تبتدئ الذكر إلا منه، ولا تختم إلا به، كما تبتدئ الطواف من البيت وتختم بالبيت.

سادسًا: السعي بين الصفا والمروة

السعي بين الصفا والمروة أحد أركان الحج أو العمرة، وهو لا يكون إلا بعد طواف صحيح، ومن خلال السعي بين الصفا والمروة يستشعر الحجاج معنى التضحية والجهد، هذا الجهد الذي قاسته السيدة هاجر من أجل شربة ماء تروي غلة طفل رضيع، أنهكه الجوع، وأرهقه الظمأ، امرأة وحيدة وسط الجبال الشاهقة، وبطون الوديان السحيقة، تهرول هنا وهناك، في صعود وانحدار، وحيرة واضطراب، يمزِّق أحشاءَها أنينُ ولد عليل، جفَّ ريقه، وجمُد لسانه اللاهث من شدة العطش، فإذا ما اشتد الخطْب، وادلهمَّ الأمر، تجلَّت رحمة الله كالنور في الظلمة، كالأمل الباسم وسط اليأس الحالك، فتفجر الماء سلسالًا، وانساب عذبًا دفاقًا، إنه بئر زمزم الميمونة المباركة، النبع الطاهر، والرحيق الحلو، والدواء الشافي؛ ليعرف الناس أن الله تعالى لا ينسى أولياءه، وأن الفرج بعد الضيق، وأن مع العسر يسرًا: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ [الطلاق: 3].

ولتتذكر أيها الساعي الكريم عند ترددك بين الصفا والمروة ترددَك بين كفتي الميزان في عرصات القيامة، ناظرًا إلى الرجحان والنقصان، مترددًا بين العذاب والغفران، فأكثر في السعي من الدعاء والرجاء، وإياك أن يُشَبِّه الشيطان عليك، ويُلْبِس عليك عبادتك، ويقول لك: إن هاجر إنما صعدت وانحدرت، وراحت وجاءت، وسعت وهرولت، بحثًا عن ماءٍ أو بشر، أما أنا فما قيمة عملي؟ وما فائدة سعيي؟ فاعلم أنه ليس من شرط العبودية أن تفهم المقصود بجميع ما يأمرك به مولاك، ولا أن تطلع على فائدة تكليفه؛ وإنما يتعين عليك الامتثال، ويلزمك الانقياد، من غير طلب فائدة، ولا سؤال عن مقصود، وليكن على قلبك دائمَا هذه العبارة الصديقية: "سَلِّمْ لما لا تعلم".

نسأل الله أن يكتب لنا القبول والرضوان، إنه على كل شيء قدير.

سابعًا: الوقوف بعرفات

وفي الموكب الإلهي، وفي الركب الروحاني، وفي مسيرة الإيمان، تتوجهون إخواني وأخواتي الحجاج بين الزحام المتكاثف، وسط الجموع المؤمنة الصاخبة، وخلال الكتل الموحدة الزاحفة، قاصدين عرفات، متجردين من الملابس؛ إلا من إزار ورداء أبيضين، يتساوى فيهما الغني ذو المال الوافر والجاه العريض بالفقير والمسكين؛ لنتذكر جميعًا ذلك الكفن الذي يلُفّنا عند وداعنا الأخير لهذه الحياة، إن هذا الزحام المائج يذكرنا كذلك بيوم الحشر وما فيه، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

في عرفات الذي هو ركن الحج الأكبر تذوب الطبقية، وتتلاشى التفرقة، وتتجسَّد المساواة الحقة، المساواة الصادقة، المساواة الخالية من كل تكلفٍ أو خداع، المساواة التي فُقدت في العالم المتحضر، وضاعت في دنيا المدنية الزائفة.

عند الصعود إلى عرفات يتسابق الحجاج ويتنافسون، يتسابقون إلى ربهم، ويتنافسون في كسب رضاه، في عرفات ينسى المؤمن الدنيا وما فيها من متاع، ويهجر الحياة بما تحويه من ترف وملذات، لا يهمه لفح الهجير، أو وهج الشمس، ولا يمنعه شدة البرد، أو هطول المطر؛ لأنه خرج من نطاق البشرية إلى رحاب الروحانية؛ لأنه انسلخ من المادية إلى عالم المعنويات؛ لأنه تجرَّد من تربته الأرضية؛ ليصعد إلى الملأ الأعلى من الملائكة، وينتظم في صفوف الأبرار.

في عرفات لا يقع البصر في مكان؛ إلا ويرى عابدًا يتبتل، أو مذنبًا يتوجع، أو مؤمنًا يخشع، أو مصليًا يركع، أو عاصيًا ذا عين تدمع، فكأنه بحيرة قدسية، تغسل الآثام، وتمسح الخطايا، وتمحو السيئات.

ولِمَ لا أيها الإخوة والأخوات؟! والله تعالى يتجلَّى لأهل الموقف بالرحمة والغفران، ويباهي بهم ملائكة الأرض والسماء، ويشهدهم أنه قد غفر لهؤلاء الذين أتوا من كل فجٍّ ضاحين شعثًا غبرًا! لمَ لا، وهذا اليوم أفضل الأيام على الإطلاق! لمَ لا وإبليس ما رؤي في يومٍ أغيظ ولا أحقر ولا أدحر منه في هذا اليوم؛ إذْ يرى ما ينزل الله على عباده من رحمات!.

لك الله يا عرفات! يومك يوم نور، ويوم رحمة، يوم بركة، ويوم عطاء، يوم تبتسم فيه الآفاق، وتشرق الأكوان، ويعم الغفران، فيندحر الشيطان.

إذا تذكرت ذلك أخي الحاج الكريم، فألزِمْ قلبك الضراعة والابتهال إلى الله -عزَّ وجلَّ-؛ لتحشرَ في زمرة الفائزين المرحومين، وحقِّق رجاءك بحسن الظن بالله؛ فالموقف موقف إجابة؛ ولذلك قيل: "إن من أعظم الذنوب أن يحضر العبد عرفات ويظن أن الله تعالى لم يغفر له"، وكأن اجتماع الهمم والاستظهار بمجاورة المجتمعين من أقطار البلاد هو سر الحج، وغاية مقصوده، فلا طريقَ إلى استدرار رحمة الله سبحانه، مثل اجتماع الهمم وتعاون القلوب في وقتٍ واحد.

أما دعاء يوم عرفة فأفضله أن تقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. فأكثروا أيها الحجاج الكرام من هذا الذكر في هذا اليوم المبارك، كأني بكم أيها الإخوة الحجاج تسألون عرفات عن هذه الأمجاد التي اعتلت ذروته، وتلك الكتائب الأولى التي عاشت على سطحه فترة من الزمن، وكأني بالجبل الرحيب، يقول: كانوا أبطالًا أفذاذًا وجنودًا بواسل، كانوا أنقياءً أطهارًا، صدقوا ما عاهدوا الله عليه: ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُود﴾ [الفتح: 29]، فـ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [المائدة: 119].

كأني بالجبل الأشم يُذكِّرنا أيها الأحبة بالقائد الأعظم، بالزعيم الأكبر، بالمرشد الملهم، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وهو يلقي أسمى خطاب في الوجود، وأخلد حديثٍ على صفحات الزمان، وأظهر دستور عرفه التاريخ في حجة الوداع، يرسم للبشرية طريق خلاصها، وسبيل مجدها، ودروب سعادتها، ويسكب في أذن الدنيا أصدق قانون، فيه صلاح المجتمع، وكرامة الإنسان، ويتلو عليهم قول الله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3].

أيها الحجاج الكرام، في هذا اليوم الذي يتجلى الله عليكم فيه، ويباهي بكم الملائكة، لا تنسوا من خالص الدعاء إخوانكم المضطهدين في فلسطين والعراق والشيشان وغيرها من بلاد الإسلام، اذكروا أخواتكم وأمهاتكم الثكالى والأرامل، وأبناءكم وبناتكم اليتامى، وإخوانكم وأخواتكم المجاهدين والمجاهدات، وألحوا على الله في الدعاء أن يأخذ لهم بثأرهم ممن ظلمهم، وأن ينصرهم على عدوهم، وأن يربط على قلوبهم، ويعوضهم خيرًا مما فقدوا.

اذكروا آباءكم وأمهاتكم وإخوانكم وأخواتكم وأبناءكم وبناتكم في العراق الشقيق الذين يتعرضون للاحتلال الظالم من الصليبيين، والذين سبق أن ذاقوا الويلات من نظامٍ متسلط، وعجزٍ عربي فاضح، وعدوانٍ غربي متغطرس، اذكروهم فادعوا الله أن يكشف عنهم الغمة، وأن يفرج كربهم، ويبدل عسرهم يسرًا، وأن يكشف عن الأمة ما أصابها وما ألـمَّ بها، وأن يرفع لواء الإسلام والمسلمين في كل مكان.

أيها الحجاج الكرام، فإذا أفضتم من عرفات فأكثروا من ذكر الله، وإياكم والتدافع، وعليكم بالسكينة والوقار، فبذلك أمر الله -عز وجل- وأوصى نبيكم صلى الله عليه وسلم.

فإذا وصلتم إلى مزدلفة فاعلموا أنكم قد دخلتم في حدود الحرم، فادخلوها بالوقار، ولا تكفوا عن التلبية والدعاء، وأكثروا من ذكر الله عند المشعر الحرام في مزدلفة، استجابةً لأمر الله -عز وجل- حيث يقول: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 198، 199].

نسأل الله أن يجعلنا في يوم عرفة من المغفورين، وأن يكتب لأمتنا النصر والفلاح والتمكين، إنه على كل شيء قدير.

ثامنًا: رمي الجمار

اعلم أيها الحاج الكريم أن رمي الجمار واجب من واجبات الحج، وأن المقصود منه الانقياد للأمر؛ إظهارًا للرق والعبودية، وانتهاضًا لمجرد الامتثال من غير حظ للعقل والنفس فيه، ثم التشبه بإبراهيم -عليه السلام-؛ حيث عرض له إبليس- لعنه الله تعالى- في ذلك الموضع، فأمره الله -عز وجل- أن يرميه بالحجارة؛ طردًا له؛ وقطعًا لأمله.

فإن خطرَ لك أن الشيطان عَرَض له وشاهده فلذلك رماه، وأما أنا فليس يعرض لي الشيطان؟ فاعلم أن هذا الخاطر من الشيطان، وأنه الذي ألقاه في قلبك ليفتر عزمك في الرمي، ويخيل إليك أنه فعل لا فائدةَ فيه، وأنه يضاهي اللعب، فلم تشتغل به؟ فاطرده عن نفسك بالجد والتشمير في الرمي برغم أنف الشيطان، واعلم أنك في الظاهر ترمي الحصى إلى العقبة، وفي الحقيقة ترمي به وجه الشيطان، وتقصم به ظهره؛ إذ لا يحصل إرغام أنفه إلا بامتثالك أمر الله -سبحانه وتعالى-؛ تعظيمًا له بمجرد الأمر من غير حظ للنفس والعقل فيه.

ثم اعلموا أيها الحجاج الكرام أن الحج عنوان الحب والتآلف، ورمز الأخوة والترابط، وأن الواجب على المسلم الرفق بإخوانه، ومراعاة ظروف الناس عند أداء المناسك، وعدم التزاحم بصورة تخرج الحج عن حقيقته التي أمر الله بها، وعدم تقديم السنن والمندوبات على الفروض والواجبات، وإذا كان الشرع الحنيف قد جاء بالتيسير ورفع الحرج، كما قال الله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، وقال تعالى: ﴿مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]، وقال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ﴾ [النساء: 28]، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يسروا ولا تعسروا» (1)؛ إذا كان الأمر كذلك فلا ينبغي أن يضيق الحاج على نفسه أو على إخوانه بالإلزام بوقتٍ معين في الرمي، فيتزاحم الناس في أوقات الفضيلة، ويَدَعوا سائر الأوقات التي رخص أكثر العلماء في الرمي فيها، كما ينبغي أن يراعي الحجاج من الشباب آباءهم وأمهاتهم من كبار السن، وإخوانهم وأخواتهم من ذوي الأعذار والضعف الذين يرغبون في أداء النسك؛ حتى يكون العمل مقبولًا إن شاء الله.

نسأل الله أن يرزقنا حسن الانقياد له، وأن يجعلنا ممن اتبع ملة إبراهيم حنيفًا.

تاسعًا: ذبح الهدي

اعلم أن ذبح الهدي من أعظم القربات التي يتقرب بها الحاج إلى الله تعالى، فإنه سبحانه يعتق الله بكل جزءٍ منه جزءًا منك من النار، فكلما كان الهديُ أكبَرَ وأجزاؤُه أوفرَ كان فداؤُك من النار أعمَّ؛ وذلك من تعظيم شعائر الله: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32]، فاجتهد أيها الحاج الكريم أن تذبح هديًا ولو لم يكن واجبًا عليك، فإراقة الدماء في يوم النحر أفضل الأعمال وأرجاها عند الله، واعلم أنه ليس المقصود اللحم، بل المقصود تزكية النفس وتطهيرها عن صفة البخل، وتزيينها بجمال التعظيم لله عز وجل، وقد قال تباركت أسماؤه: ﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الحج: 27]، ولتكن أيها الحاج الكريم طيب النفس بما أنفقتَ، فإن لك بكل صوفةٍ من جلدها وبكل قطرةٍ من دمها حسنة؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "ما عمل آدمي من عملٍ يوم النحر أحب إلى الله تعالى من إهراق الدم، إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفسًا"(2).

نسأل الله الكريم أن يتقبل أعمالنا، وأن يعتق رقابنا من النار.

عاشرًا: زيارة المدينة النبوية

ليست زيارة المدينة من مناسك الحج، ولكن المسلم المحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحج أو يعتمر غالبًا إلا وهو يحرص على زيارة المسجد النبوي المبارك، وزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وزيارة الأماكن الطيبة في هذا البلد الطيب، فإذا وفقك الله أيها الحاج الكريم لزيارة هذا البلد الطيب التي سماها الله طابة أو طيبة فاعرف آداب زيارتها، واعلم أنها حرم مثل مكة تمامًا، لا يحل لأحد فيها أن يحدث شرًّا أو يؤوي محدثًا، أو ينفر صيدًا أو يقطع شجرًا إلا لعلف دابته، كما لا يحل ترويع أحدٍ من أهلها أو زوارها.

واجتهد أيها الأخ الكريم أن تصلي في الروضة الشريفة، وأن لا تفوتك فريضة في غير جماعة المسجد، وأكثر في الروضة من الدعاء والتضرع والذكر والاستغفار، واحذر أن يدفعك الحرص على الجلوس في الروضة أو غيرها على إيذاء المسلمين.

ثم اذكروا إخواني وأخواتي الحجاج الكرام وأنتم تسيرون في هذه المدينة الطيبة أنها البلدة التي اختارها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، وجعل إليها هجرته، فكانت داره التي بَيَّن فيها فرائضَ ربه، وجاهد فيها عدوه، وأظهر الله بها دينه، إلى أن توفاه ربه جلَّ وعلا، وجعلها مستقر جسده الشريف إلى يوم القيامة، ثم اذكروا أولئك النفر الذين صحبوه فيها وربَّاهم على عينه، فأيَّده الله بهم، ونصره بجهادهم، وشرَّفهم ورفع شأنهم وأعلى مقامهم بصحبتهم إياه صلى الله عليه وسلم، وتذكرْ أيها الحاج الكريم كم من الخير فاتك إذْ لم يكتب الله لك صحبته معهم، وأنه لا سبيلَ للحاق بهم والوصول إلى مراتبهم إلا بالتأسي والاقتداء بهم والسير على طريقهم، فتحمل الدعوةَ كما حملوها، وتنصُر الشريعة كما نصروها، وتُضحي في سبيل الدين بالغالي والنفيس كما فعلوا، وتشتري الآخرة بالدنيا فتربح كما ربحوا، والله يتولانا وإياكم بفيض رحمته وعطائه، وهو يتولى الصالحين.

وختامًا

فإذا كان العرب قد حجوا إلى بيت الله العتيق في جاهليتهم، فالإسلام قد شدد في طلب الحج حتى اعتبره من الجهاد، واعتبره نسك الإسلام الأكبر؛ فقد جعل الله تعالى لكل أمةٍ نسكًا، وجعل الحج نسك الإسلام.. ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ (الحج: 34].

ولقد استمر الناس على القيام بحق هذا النسك العظيم، ينفرون إليه خفافًا وثقالاً ورجالاً وركبانًا، تمخر بهم السفن في عباب البحار، ويطوون الأرض طيًّا، ويركبون الهواء، شوقًا إلى ربهم، وتلبيةً لندائه، حتى تعج بهم الأرض المقدسة؛ وبيت الله، والمشعر الحرام، وها أنتم أيها الإخوة والأخوات قد يسَّر الله لكم أداء هذا النسك العظيم، فاحرصوا على أدائه على الوجه الأكمل، وإياكم والرفث والفسوق، عسى الله أن يجعلنا وإياكم من المقبولين الفائزين.

ولعل من علامات قبول الحج أن يعود الحاج وقد ازداد زهدًا في الدنيا، وإقبالاً على الآخرة، ويعود أرقّ فؤادًا وأزكى نفسًا، وأخشى قلبًا، يعود تاركًا لما كان عليه من المعاصي، مستبدلاً بإخوان البطالة والكسل واللهو واللعب إخوانًا صالحين، وبمجالس اللهو والغفلة مجالس الذكر واليقظة، يعود وقد أدرك أنه هاجر بحجةٍ إلى الله تبارك، والله يتولى توفيقنا وإياكم لما يحب ويرضى.

من فاته الحج

أما أنت أيها الأخ الكريم الذي لم يتيسر له الحج مع الطائفين العاكفين الركع السجود فلا تحرم نفسك من التشبه بالحجيج من خلال بعض الطاعات التي دلنا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الأيام المباركة، وهي:
1- نية التضحية: فمتى كنت ميسور الحال واجدًّا سعةً لأن تضحي فلا تحرم نفسك من هذه الشعيرة المباركة فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نفقةٍ بعد صلة الرحم أفضل عند الله من إهراق الدم".

وقال صلى الله عليه وسلم: "ما من عبدٍ توجَّه بأضحيته إلى القبلة إلا كان دمها وفرثها وصوفها حسنات محضرات في ميزانه يوم القيامة، فإن الدم إن وقع في التراب فإنما يقع في حرز الله حتى يُوفيه صاحبه يوم القيامة" (رواهما ابن عبد البر في كتاب التمهيد)، وقال صلى الله عليه وسلم: "ما عمل آدمي عملاً يوم النحر أحبَّ إلى الله من إهراق الدم، إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكانٍ قبل أن يقع إلى الأرض فطيبوا بها نفسًا"، (أخرجه الترمذي وحسّنه والحاكم وصححه).

ولما كانت هذه الأضحيةُ قربةً إلى الله تعالى فإنه ينبغي لك أن تختار لها أفضلَ الأضاحي وأسمنَها وأغلاها وأنفسَها، وهو ما فعله النبيُّ صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: "كان يضحي بكبشين أملحين أقرنين، ويسمي ويكبر ويضع رجله على صِفَاحِهما، وفي لفظ: ذبحهما بيده (متفق عليه)، وفي لفظ: "سمينين"، وفي لفظ: "ثمينين" بالمثلثة بدل السين، وفي لفظ: "موجوءين"، وإذا نويت ذلك أيها الحبيب فإنه يستحب لك أن لا تأخذ من أظفارك وشعرك شيئًا إذا دخلت عشر الحجة فقد قال رسول الله صلى الله عليه: "إذا دخلت العشر فأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا بشره شيئًا".

2- الإكثار من العمل الصالح في العشر الأُول ذي الحجة: فهذه الأيام أعظم الأيام عند الله تعالى، وقد أقسم الله تعالى بلياليها في قوله تعالى: ﴿وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)﴾ [الفجر: 1، 2]، وفي بيان أهمية العمل الصالح في هذه الأيام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أيامٍ العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام العشر" قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء".

وهذا العمل الصالح في هذه الأيام يشمل صيام نهارها، وقيام لياليها، وكثرة الإنفاق فيها، والاجتهاد في الذكر والتسبيح والتكبير، والمسارعة إلى الخيرات، وصلة الأرحام، وسائر الطاعات والقربات.

أسأل الله أن يوفقنا وإياكم إلى طاعته، وأن يبلغنا وإياكم منازل الصالحين من عباده، وأن يختم لنا ولكم بخير وعافية.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

________

1)) الحديث عن أنس بن مالك، أخرجه البخاري في كتاب: العلم، باب: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا 1/63 (69)، ومسلم في كتاب: الجهاد والسير، باب: في الأمر بالتيسير وترك التنفير 3/1359 (1734)..

(2) الحديث عن عائشة، أخرجه الترمذي، وقال: حسن غريب، في كتاب: الأضاحي، باب: ما جاء في فضل الأضحية 4/83 (1493)، وابن ماجه في كتاب: الأضاحي، باب: ثواب الأضحية 2/1045 (3126).

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.