ترك السجدة في الصلاة

صلينا الظهر جماعة فترك الإمام السجدة الثانية من الركعة الأولى، وسبح بعض المصلين، ولكن الإمام قام وأكمل الصلاة ثم سجد للسهو قبل أن يسلم، ثم أخبر الإمام المصلين بأن سجود السهو يجبر السجدة المتروكة، فما الحكم في ذلك، أفيدونا؟

 

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

فالواجب على الإمام الذي ترك سجدةً من الركعة الأولى ثم قام إلى الركعة الثانية فسبح المصلون، أن يرجع فيأتي بها، إن لم يكن قد شرع في القراءة للركعة الثانية، فإن كان قد شرع في القراءة للركعة الثانية، فتكون تلك الركعة الأولى، ويلغى ما سبقها، ويسجد للسهو قبل التسليم في الحالتين. وبما أن الإمام لم يقم بذلك فتلك الصلاة باطلة ويلزم قضاؤها. وأن أهل العلم متفقون على أن سجود السهو لا يجبر الأركان ولا الفرائض، وإنما يجبر السنن.

وإليك تفصيل ذلك في فتوى الدكتور حسام الدين عفانة أستاذ الفقه وأصوله بجامعة القدس:

 

اتفق أهل العلم على أنه يجب على المسلم أن يتعلم الأحكام الشرعية التي لا تصح الصلاة إلا بها، واتفقوا على أن هذا العلم فرضُ عينٍ،لا يعذر المسلم بجهله، ويدل على ذلك قوله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}سورة النحل الآية 43، وورد في الحديث عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (طلبُ العلم فريضةٌ على كل مسلم) رواه ابن ماجة وغيره وهو حديث صحيح بمجموع طرقه، وانظر صحيح الترغيب والترهيب 1/140.

ومما يدل على أن المسلم لا يعذر بالجهل في أحكام الصلاة التي تتوقف صحة الصلاة عليها، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل عذر الجهل من الرجل الذي أساء الصلاة، فلم يعتد بصلاته، فعن أبي هريرة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فدخل رجلٌ فصلَّى فسلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم فردَّ وقال:ارجع فصلِ فإنك لم تصل، فرجع يصلي كما صلَّى، ثم جاء فسلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ارجع فصلِ فإنك لم تصل ثلاثاً،فقال والذي بعثك بالحق ما أُحسن غيره فعلمني، فقال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعدل قائماً،ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً،ثم ارفع حتى تطمئن جالساً،وافعل ذلك في صلاتك كلها) رواه البخاري ومسلم.

قال الإمام النووي: [... فرض العين وهو تعلم المكلف ما لا يتأدى الواجب الذي تعين عليه فعله إلا به، ككيفية الوضوء والصلاة ونحوها، وعليه حمل جماعاتٌ الحديثَ المروي في مسند أبي يعلى الموصلي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) وهذا الحديث وإن لم يكن ثابتاً فمعناه صحيح] المجموع 1/24.

وقال الحافظ ابن عبد البر: [قد أجمع العلماء على أن من العلم ما هو فرضٌ متعينٌ على كل امرئٍ في خاصته بنفسه، ومنه ما هو فرضٌ على الكفاية إذا قام به قائمٌ سقط فرضه على أهل ذلك الموضع،... والذي يلزم الجميع فرضه من ذلك، ما لا يسعُ الإنسانَ جهلُهُ من جملة الفرائض المفترضة عليه، نحو الشهادة باللسان والإقرار بالقلب بأن الله وحده لا شريك له... وأن الصلوات الخمس فرضٌ ويلزمه من علمها علمُ ما لا تتم إلا به، من طهارتها وسائر أحكامها] جامع بيان العلم وفضله1/10-11.

وقد قرر جمهور أهل العلم التفريق بين النسيان والجهل في أحكام الصلاة وغيرها من العبادات، فقالوا يُعذرُ الناسي ولا يُعذرُ الجاهل، قال الإمام القرافي: [الفرق الثالث والتسعون بين قاعدة النسيان في العبادات لا يقدح، وقاعدة الجهل يقدح، وكلاهما غير عالمٍ بما أقدم عليه.اعلم أن هذا الفرق بين هاتين القاعدتين مبنيٌ على قاعدةٍ وهي أن الغزالي حكى الإجماع في إحياء علوم الدين، والشافعي في رسالته حكاه أيضاً في أن المكلف لا يجوز له أن يُقدمَ على فعلٍ حتى يعلمَ حُكمَ الله فيه، فمن باع وجب عليه أن يتعلم ما عينه الله وشرعه في البيع، ومن أجر وجب عليه أن يتعلم ما شرعه الله تعالى في الإجارة، ومن قارض وجب عليه أن يتعلم حكم الله تعالى في القراض، ومن صلَّى وجب عليه أن يتعلم حكم الله تعالى في تلك الصلاة، وكذلك الطهارة، وجميع الأقوال والأعمال، فمن تعلَّم وعمل بمقتضى ما علم، أطاع الله تعالى طاعتين، ومن لم يعلم ولم يعمل، فقد عصى الله معصيتين، ومن علم ولم يعمل بمقتضى علمه، فقد أطاع الله تعالى طاعةً، وعصاه معصيةً. ويدل على هذه القاعدة أيضاً من جهة القرآن قوله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام:{قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ}سورة هود الآية 47، ومعناه ما ليس لي بجواز سؤاله علمٌ، فدلَّ ذلك على أنه لا يجوز له أن يقدم على الدعاء والسؤال، إلا بعد علمه بحكم الله تعالى في ذلك السؤال، وأنه جائزٌ، وذلك سبب كونه عليه السلام عوتب على سؤال الله عز وجل لابنه أن يكون معه في السفينة، لكونه سأل قبل العلم بحال الولد، وأنه مما ينبغي طلبه أم لا، فالعتب والجواب كلاهما يدل على أنه لا بد من تقديم العلم بما يريد الإنسان أن يشرع فيه، إذا تقرر هذا فمثله أيضاً قوله تعالى:{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}سورة الإسراء الآية 36، نهى الله تعالى نبيه عليه السلام عن اتباع غير المعلوم، فلا يجوز الشروع في شيءٍ حتى يُعلم، فيكون طلب العلم واجباً في كل حالة...فإذا كان العلم بما يقدم الإنسان عليه واجباً، كان الجاهل في الصلاة عاصياً بترك العلم، فهو كالمتعمد الترك بعد العلم بما وجب عليه، فهذا هو وجه قول مالك رحمه الله: إن الجهل في الصلاة كالعمد،والجاهل كالمتعمد لا كالناسي. وأما الناسي فمعفو عنه لقوله عليه السلام: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه). وأجمعت الأمة على أن النسيان لا إثم فيه من حيث الجملة، فهذا فرقٌ، وفرقٌ ثانٍ وهو أن النسيان يهجم على العبد قهراً لا حيلة له في دفعه عنه، والجهل له حيلةٌ في دفعه بالتعلم، وبهذين الفرقين ظهر الفرق بين قاعدة النسيان وقاعدة الجهل.] الفروق 2/148-149.

إذا تقرر هذا،فإن الواجب على الإمام أن يحسن أحكام الصلاة، وهو غير معذورٍ بجهله، فسجود السهو لا يجبر الأركان ولا الفرائض وإنما يجبر السنن، وكان الواجب على الإمام المذكور أن يعود للجلوس، ويأتي بالسجدة التي تركها ما لم يشرع في القراءة للركعة الثانية، وأما إذا شرع في القراءة للركعة الثانية، فإنه يعتبر الركعة الأولى لاغية، وتكون الركعة الثانية هي الأولى، ويتم صلاته، ويسجد للسهو قبل التسليم في الحالتين.

قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ من ترك ركناً من الصلاة... الصورة الثانية قام من السجدة الأولى ولم يجلس للفصل بين السجدتين، فهذا قد ترك ركنين، جِلسةَ الفصْل، والسجدةَ الثانية، فلا يخلو من حالين:

أحدهما: أن يذكر قبل الشروع في القراءة، فيلزمه الرجوع، وهذا قول مالك والشافعي، ولا أعلم فيه مخالفاً، فإذا رفع فإنه يجلس جِلسة الفصْل ثم يسجد السجدة الثانية ثم يقوم إلى الركعة الأخرى...

الحال الثاني: ترك ركناً إما سجدةً أو ركوعاً ساهياً ثم ذكره بعد الشروع في قراءة الركعة التي يليها، بطلت الركعة التي ترك الركن منها، وصارت التي شرع في قراءتها مكانها، نصَّ على هذا أحمد في رواية الجماعة، قال الأثرم سألت أبا عبد الله عن رجلٍ صلى ركعةً ثم قام ليصلي أخرى، فذكر أنه سجد للركعة الأولى سجدةً واحدةً، فقال: إن كان أول ما قام قبل أن يحدث عمله للأخرى، فإنه ينحط ويسجد ويعتد بها، وإن كان أحدث عمله للأخرى، ألغى الأولى وجعل هذه الأولى] المغني 1/715.

وقال الشيخ العلامة محمد العثيمين: [ قوله:«فذكره بعد شروعه في قراءة ركعةٍ أخرى بطلت التي تركه منها» بطلت: يعني صارت لغواً، وليس البطلان الذي هو ضد الصحة، لأنه لو كان البطلان الذي هو ضد الصحة؛ لوجب أن يخرج من الصلاة، ولكن المراد بالبطلان هنا: اللغو، فمعنى «بطلت» أي صارت لغواً، وتقوم التي بعدها مقامها، هذا إذا ذكره بعد شروعه في قراءة الركعة الأخرى... وعلى القول الراجح فإنه إذا ترك ركناً فلا يخلو من ثلاث حالات:

الحال الأولى: إن ذكره قبل أن يصل إلى محله وجب عليه الرجوع.

الحال الثانية: إن ذكره بعد أن وصل إلى محله فإنه لا يرجع؛ لأنه لو رجع لم يستفد شيئاً، وتقوم الثانية مقام التي قبلها.

الحال الثالثة: إن ذكره بعد السلام فإن كان من ركعة قبل الأخيرة أتى بركعة كاملة، وإن كان من الأخيرة أتى به وبما بعده فقط، ولا يلزمه أن يأتي بركعة كاملة. هذه أحوال نقص الأركان] الشرح الممتع3/278-279.

وينبغي التأكيد على أن الإمام إذا ترك شيئاً من الصلاة جهلاً منه بالحكم الشرعي فإنه آثم، لتقصيره في التعلم، وسؤال أهل العلم. وأما إذا ترك شيئاً من الصلاة نسياناً، فلا إثم عليه، لما ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه ابن ماجة والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل 1/123، ولما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما نزلت هذه الآية:{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}سورة البقرة الآية 284، قال دخل قلوبهم منها شيءٌ لم يدخل قلوبهم من شيء فقال: صلى الله عليه وسلم: قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا، قال فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال قد فعلت:{رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قال قد فعلت :{وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا}قال قد فعلت) رواه مسلم.

وخلاصة الأمر:

أن الواجب على المسلمين عامةً وعلى أئمة المساجد خاصةً، أن يتعلموا ما تتوقف عليه صحة الصلاة، وأن الجاهل في هذا المقام لا يُعذر بخلاف الناسي. والواجب على الإمام الذي ترك سجدةً من الركعة الأولى ثم قام إلى الركعة الثانية فسبح المصلون، أن يرجع فيأتي بها، إن لم يكن قد شرع في القراءة للركعة الثانية، فإن كان قد شرع في القراءة للركعة الثانية، فتكون تلك الركعة الأولى، ويلغى ما سبقها، ويسجد للسهو قبل التسليم في الحالتين. وبما أن الإمام لم يقم بذلك فتلك الصلاة باطلة ويلزم قضاؤها. وأن أهل العلم متفقون على أن سجود السهو لا يجبر الأركان ولا الفرائض، وإنما يجبر السنن.

والله أعلم.

________________

نشرت على موقع الشيخ يوم الجمعة 01 يوليو 2011م.

 

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.