عاشوراء يوم النصر

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فلمَّا علِم فرعون من تفسير الرؤيا التي رآها أن زوال ملكه سيكون على يد رجل من بني إسرائيل، أصدر أوامره بقتل كل مولود ذكر من بني إسرائيل، ثم إنه خشي فناء الذكور، فأمر أن يُقتل المواليد سنة ويُتركوا سنة، وشاء الله تعالى أن يُولد موسى عليه السلام في العام الذي يُقتل فيه المواليد؛ فالله قادر على أن ينجي أولياءه في مكان الخطر، ويؤمِّنهم في وقت الخوف، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ولما خافت أم موسى عليه السلام على ولدها، لم يأمرها الله بإخفائه، بل أمرها بأن تلقيه في اليم ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7]، فسبحان الحافظ الذي بيده مقاليد الأمور.
ويأتي التحدي الأكبر، حينما شاء الله أن يصل موسى عليه السلام إلى قصر المجرم السفاح فرعون، لكنه لا يستطيع قتله، وقد جاء إليه ليكسر جبروته ويتحدى بطشه: ﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ﴾ [القصص: 8].
ويكبر موسى عليه السلام ويخرج من مصر إلى مدين؛ فرارًا من بطش فرعون بسبب حادثة القبطي.
وبعد سنوات يعود موسى ليدعو فرعون إلى الله ومعه أخوه هارون عليه السلام، وقد أمرهما الله تعالى أن يُلينا له القول، مع أنه ادعى الربوبية، وطغى وأفسد في الأرض، قال سبحانه: ﴿ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 44]، وهذا درس لكل داعية وناصح، أن يتخذ هذا الأسلوب الشرعي في نصح الناس، بأن يكون باللين والقول الحسن والكلمة الطيبة، وألَّا ييئس الداعي من هداية أحد مهما بلغ من الطغيان.
وتحدث حادثة السحرة، ويُظهر الله الحق على الباطل ويؤمن السحرة، وفيها من الدروس ما فيها؛ فهؤلاء كانوا أول النهار سحرة، فصاروا آخر النهار شهداء بررة ضحوا بأرواحهم من أجل هذا الدين، واختاروا الآخرة على الدنيا، ولم تغرهم وعود فرعون، ولم تُخِفْهم تهديداته؛ فرفع الله قدرهم، وسطَّر موقفهم في كتابه العزيز، فالثبات طريق الفلاح.
ولما خرجت بنو إسرائيل مع موسى عليه السلام، ولحقهم فرعون وجنوده، قالت بنو إسرائيل: "إنا لمدركون"؛ لأنهم رأوا فرعون خلفهم والبحر أمامهم، فأين يهربون؟ لكن موسى عليه السلام كان على يقين تام أن الله ناصره فقال: "كلا إن معي ربي سيهدين"، فجاء الفرج من الله وجاء النصر، فأمر الله البحر أن ينشق لهم وخرجوا آمنين، ونجاهم الله وأغرق فرعون وجنوده، وهو درس عظيم في التوكل على الله تعالى، وكان ذلك اليوم هو يوم عاشوراء، قال سبحانه: ﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 61، 62].
يوم عاشوراء هو العاشر من شهر محرم، يوم عظيم، صامه موسى عليه السلام؛ شكرًا لله تعالى، وصامه نبينا صلى الله عليه وسلم، وأمر بصيامه، كانت بنو إسرائيل تصومه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ((قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى، قال: فأنا أحق بموسى منكم، فصامه، وأمر بصيامه))؛ رواه البخاري في صحيحه.
وهذا فيه دليل على أن الشكر يكون بالفعل كما يكون بالقول، كما قال تعالى: ﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13].
وحتى قريش في الجاهلية كانت تصومه، وكان صيامه فرضًا قبل أن يُفرض صيام رمضان، فعن عائشة رضي الله عنها أن قريشًا كانت تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيامه حتى فُرض رمضان، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من شاء فليصمه، ومن شاء أفطر))؛ رواه البخاري في صحيحه.
فيُستحب صيام يوم عاشوراء، ويُستحب صيام يوم قبله أو يوم بعده؛ مخالفة لليهود، عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع))؛ رواه مسلم في صحيحه.
وصيام يوم عاشوراء مكفر لذنوب سنة ماضية - يعني: صغائر الذنوب - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((... وصيام يوم عاشوراء، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله))؛ رواه مسلم في صحيحه.
وكان طائفةٌ من السلف يصومون عاشوراء في السفر، منهم: ابن عباس، وأبو اسحاق، والزهري، وقال الزهري: "رمضان له عدة من أيام أخر، وعاشوراء يفوت"، ونص أحمد على أن يُصام عاشوراء في السفر.
ولأهميته؛ كان الصحابة رضي الله عنهم يربون صبيانهم على صيامه، كما في حديث الربيع بنت معوذ رضي الله عنها قالت: "فكنا نصومه ونُصوِّم صبياننا"؛ متفق عليه.
فينبغي لكل مسلم يقدر على صيامه ألَّا يفرط فيه، فما أحوجنا لتكفير السيئات، ومغفرة الذنوب والخطيئات!

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. 

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.