إلى البيت العتيق

 قال الله تعالى في كتابه الكريم: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)}[آل عمران: 96، 97].

بيت لا كالبيوت، وبنية لا كالبنيات، وحرم لا كأيِّ حرم، شريف في نسبته، عتيق في وضعه، كريم بكرم بنائه.. هي (الكعبة البيت الحرام)، بيت الله في الأرض، ورمز عظمته، وموئل كل مستجير وعائد، يجد فيه القادم إليه أمنًا وإيمانًا، وبردًا وسلامًا، أوَّل بيت وضع مُشَرَّفًا في الأرض بشهادة القرآن، وسنَّة خاتم الأنبياء، روى البخاري ومسلم –رضي الله عنهما- بسندهما في صحيحيهما عن أبي ذَرٍّ –رضي الله تعالى عنه- قال: قلت: يا رسول الله.. أيُّ مسجد وُضِع في الأرض أوَّلًا؟ قال: «الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ». قلت: ثمَّ أيُّ؟ قال: «الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى». قلت: كم بينهما؟ قال: « أَرْبَعُونَ سَنَةً، وحَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ، فَهُوَ مَسْجِدٌ».

ولمَّا أراد الله –سبحانه وتعالى- لبيته أن يقام، وأن تشرف به الأرض، أمر صفيَّه وخليله إبراهيم –عليه الصَّلاة والسَّلام- أن يرفع القواعد، ويقيم البناء، وعهد إليه وإلى ابنه الذبيح إسماعيل أن يطهِّراه من الرِّجس والوثنية؛ ليكون مطافًا للطَّائفين، ومتعبَّدًا للعاكفين، ومصلَّى للرَّاكعين السَّاجدين. فامتثل الخليل لأمر الجليل، وشرع في البناء، يعاونه إسماعيل، يحدوهما الإخلاص لله، ويرجوان منه المثوبة والقبول، وأن يجعل من ذريتهما أُمَّة مسلمة موحِّدة، وأن يرسل فيهم رسولًا من أنفسهم يعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكي النُّفوس من مساوئها، ويطهِّر القلوب من أحقادها وزيفها، وباطلها وانحرافها، فاستجاب الله له الدعاء، وحقَّق الرَّجاء، فكانت الأمَّة المسلمة الموحِّدة هي الأمَّة المحمدية خير أُمَّة أخرجت للنَّاس، وكان رسولها هو حامل اللِّواء، وخاتم الأنبياء، وصاحب الدِّين العام الخالد سيدنا ونبيِّنا محمد –صلوات الله وسلامه عليه-، قال –عَزَّ شأنه-: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)}[البقرة: 127-129].

وما أن فرغ الخليل من بناء الكعبة البيت الحرام بمعاونة ابنه إسماعيل؛ حتَّى أمره الله سبحانه أن يؤذِّن في النَّاس بالحجِّ، فقال الخليل: وما يبلغُ صوتي يا ربي؟ فقال الله سبحانه: «أذن -يا إبراهيم- وعلىَّ البلاغ»، فصعد على جبل أبي قبيس –جبل بمكة-، وقال: «يا أيُّها النَّاس.. إنَّ الله كتب عليكم الحجَّ فحُجُّوا»، فبلغ صوته لأهل الأرض، ومن يوم أن أذَّن الخليل، وحملت أصداء صوته أمواج الأثير إلى أهل الأرض، والنَّاس يقصدون هذا البيت حاجين ومعتمرين؛ ليحظوا بالمنافع الدِّينيَّة والدُّنيويِّة، ويقضوا حاجات النَّفس المؤمنة، والرُّوح المشوّقة.

إنَّ في هذا البيت لآيات بيِّنات، ودلائل واضحات، على عظمة ربِّ الأرض والسَّماوات، منها: مقام إبراهيم –عليه الصَّلاة والسَّلام-.

والمقام: هو الحجر الَّذي كان يقف عليه إبراهيم وهو يبني حين ارتفع عن قامته البناء، فأثرت قدماه فيه، وبقي على هذا آلاف السنين. وفي إلانة الحجر للخليل، وغوص قدميه فيه إلى الكعبين، وبقاء هذا الأثر إلى يومنا هذا عبرة وعظة لمن يعتبر ويتذكَّر. وهذا الحجر هو الذي أمر الله الطَّائفين بعد الفراغ من طوافهم حول الكعبة أن يصلُّوا عنده ركعتين لله سبحانه، وهي إحدى الموافقات التي وافق فيها عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- ربَّه، روى البخاريُّ في صحيحه عنه أنَّه قال: "وافقت ربي في ثلاث: قلت: يا رسول الله.. لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلَّى. فأنزل الله:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}. وقلت: يا رسول الله.. يدخل عليك البَرُّ والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب. فأنزل الله آية الحجاب. وبلغني معاتبةُ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بعض نسائه، فدخلتُ عليهنَّ، فقلت: إن انْتَهَيْتُنَّ أو لَيُبَدِّلَنَّ الله رسولَهُ صلى الله عليه وسلم خيرًا مِنْكُنَّ؛ حتَّى أتيت إحدى نسائه، قالت: يا عمر.. أمَا في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعِظُ نساءه حتَّى تَعِظُهُنَّ أنت؟ فأنزل الله: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم: 5].

وقد كانت آثار قدمي إبراهيم في الحجر باقية إلى عهد الرسول؛ حتَّى قال أبو طالب:

وَمَوْطِئِ إِبْراهيمَ فِي الصَّخْرِ رَطْبَةً

 

عَلى قَدَمَيْهِ حافِياً غَيْرَ ناعِلِ

وفي موطأ ابن وهب عن أنس قال: "رأيت المقام فيه أصابع إبراهيم، وأخمص قدميه؛ غير أنَّه أذهبه مسح النَّاس بأيديهم".

وقال ابن جرير الطَّبريّ في تفسيره: "ولقد ذكر لنا من رأى أثر عقبه وأصابعه فيها، فما زالوا يمسحونه حتَّى اخلولق وانمحى".

وكان المقام ملصقًا بالبيت من عهد إبراهيم، واستمر هكذا حتَّى كان عهد النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، وعهد الصديق –رضي الله عنه-، فلمَّا جاء الفاروق عمر أخَّره إلى المكان الذي هو فيه الآن، وكان سيدنا عمر رأى أن إبقاءه في مكانه ملتصقًا بالبيت فيه تضييق على الطَّائفين، أو على المصلِّين، فوضعه في مكان يرتفع به الحرج، وتهيأ له ذلك؛ لأنَّه الَّذي كان أشار باتخاذه مصلَّى، وأوَّل من عمل عليه المقصورة الآن، ولا يزال هذا المقام موجودًا إلى يومنا هذا، محاطًا بسياج من الحديد، قبالة باب الكعبة، يصلِّي عنده الطَّائفون ركعتين.

ومن مزايا هذا البيت، وما يحيط به من حرم: أنَّ من دخله كان آمنًا، فلا يتعرض له أحد بسوء؛ تعظيمًا للبيت. وقد كان الأعرابي في الجاهلية يجد قاتل أبيه أو أخيه في الحرم فلا يهيجه، وقد جاء الإسلام فأكثر حرمته، وأعلى من شأنه. روي عن عمر –رضي الله عنه- أنَّه قال: "لو وجدت فيه قاتل الخطاب ما هجته".

وروي عن ابن عبَّاس أنَّه قال في قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}، قال: "من عاذ بالبيت أعاذه البيت"؛ ولكن لا يؤوى، ولا يطعم، ولا يسقى، فإذا خرج أخذ بذنبه.

وقد جعل الشَّارع الحكيم كل ما في الحرم آمنًا؛ حتَّى الطَّير والحيوان؛ بل والجماد؛ وذلك حتَّى يكون كلّ من فيه وما فيه آمنًا. وهذه خصوصية البيت وما جاوره من يوم أن خلق الله السماوات والأرض إلى يوم القيامة.

روى الشَّيخان في صحيحيهما –واللفظ لمسلم- عن ابن عبَّاس –رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ؛ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ ...».

وقال يوم فتح مكة: «إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا يَلْتَقِطُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا -حشيشها-»، فقال العبَّاس: يا رسول الله.. إلَّا الإِذْخِر –نوع من النبت-؛ فإنَّه لِقَيْنِهِمْ –الحداد- وَلِبُيُوتِهِمْ. فقال: «إِلَّا الْإِذْخِرَ».

إن بيتًا هذا بعض شأنه، كرَّمه الله غاية التَّكريم، وخصَّه بهذه الخصائص؛ لجدير أن تُشدُّ إليه الرِّحال، وأن تتحمل في سبيله المشاق، وأن تُبذل الأموال طيِّبة بها النُّفوس، ففي الصَّحيحين عن أبي هريرة –رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِي هَذَا، وَمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ».

إن المسجد الحرام من المساجد التي تَتضاعف فيها الحسنات، وتُمحى فيها السَّيِّئات، وتُسكب العَبرات، وتُستجاب الدَّعوات. روي في الصَّحيحين أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ؛ إِلاَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ». وفي مسند أحمد زيادة حسنة بإسناد حسن: «فَإِنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ»، فالمسجد الحرام عند جمهور العلماء أفضل المساجد، يليه المسجد النَّبوي، يليه المسجد الأقصى.

إنَّ الخليل إبراهيم –عليه وعلى نبينا أفضل الصَّلاة والسَّلام- لما بنى الكعبة البيت الحرام، قال –كما حكاه الله عنه بقوله-: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37].

وقد استجاب الله الدُّعاء، فمن منذ آلاف السِّنين، والقلوب تهفو إلى هذه البقاع المقدَّسة، ولا تزال الآلاف المؤلفة تهوي إلى هذا البيت لتفيئ إلى ظلاله، وتقتبس من أنواره، وتغترف من بحاره، وتنفق من مال الله الذي جعلهم مستخلفين فيه على الفقراء والمساكين من سكانه المجاورين له.

أيُّها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها: إنَّ الحجَّ مؤتمركم الإسلامي الأكبر، يجمعكم من كلِّ صَقع، ومن كلِّ قُطر، تتذاكرون فيه المصالح المشتركة، وتتعاونون فيه على البِرِّ والتَّقوى، وتتشاركون فيه السَّرَّاء والضَّرَّاء، وتعملون فيه على توثيق العلاقات، وتأكيد الصِّلات، وتحقيق الوَحدة والإخاء الإسلامي؛ حسبما صَدع الوحي به في قوله سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا»، وقوله: «مَثَلُ المؤمنين فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهم؛ كَمَثَلِ الْجَسَدِ، إذَا اشْتَكَى مِنْهً عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بالسَّهَرِ وَالحُمَّى». رواهما البخاري ومسلم.

إنَّ ممَّا لا يقضى منه العجب.. أنَّ بعض المسلمين يحرصون على الاصطياف والرِّحلة إلى البلاد الغربيَّة والشَّرقيَّة، ويُنفقون في هذا السبيل الآلاف، بينما يُفرِّطون في هذه الرحلة المباركة؛ حيث المغاني المقدسة: الكعبة البيت الحرام، والرُّكن والمقام، وزمزم والحُطيم، والصَّفا والمروة، وعرفات والمزدلفة، ومِنى والجمرات. فهلُمُّوا أيُّها المسلمون المشتاقون إلى البيت العتيق.

 

 

***

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.