فريضة الحجِّ

قال الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، وقال جل شأنه: {وَلله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97].

إذا طرحنا عن أنفسنا الجدل النَّظري في وجوب الحجِّ في الآية الأولى أو الآية الثَّانية؛ فإنَّ القَدْر المتَّفق عليه هو وجوب الحجِّ وفريضته بالقرآن الكريم وبالسُّنَّة النَّبويَّة الثَّابتة الصَّحيحة.

روى مُسْلم والنَّسائيّ عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أنَّه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: « أَيُّهَا النَّاسُ.. إنَّ الله قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ فَحُجُّوا». فقال رجل: أكُلَّ عامٍ يا رسول الله؟ فَسَكَتَ؛ حتَّى قالها ثلاثًا. ثمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ فَحُجُّوا»، ثم قال: «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ؛ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أنبيائهم, فَإِذَا أَمَرْتُكُم بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا استطعتم, وإذا نهيتكم عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ».

وأحكام الحج وتفصيلها مبسوط في كتب الفروع، وميسَّر في كتب موجزة لمن يريد الحج. ففي هذه الكتب إرشاد للحاج منذ أن يخرج من بيته إلى أن يعود إليه، ويقال له: حجٌّ مبرور، وعُمرةٌ مُتقبَّلةٌ.

والذي يشُدُّ الانتباه له من الآيتين السالفتين، والحديث الشريف، يتلخص في النقاط الآتية:

(1)

أن الحجَّ عبادة، لا ينبغي -كسائر العبادات التي جاء بها الإسلام- أن تكون إلا لله.

ومن أجل هذا انتهت بذكر الله فقرة، وبدأت بذكر الله أخرى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، {وَلله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97].

ومعنى هذا: أنَّه يجب أن يكون في ذهن من يريد الحجَّ منذ التفكير فيه؛ أنَّ الله مقصوده وصاحبه من البداية إلى النِّهاية، والله طيِّب لا يَقبلُ إلَّا ما كان طيِّبًا.

(2)

أنَّ هذه العبادة بالذَّات قد يُدرك العقل بعضًا من أسرارها، ولا يُدرك الكثير ممَّا تحتويه من حِكَم وأسرار.

فقد نُدرك من وراء ملابس الإحرام معنى التَّجرُّد من الدُّنيا، وتَذَكُّر الأكفان التي يُلَفُّ بها من انتهت حياته الأُولى. وقد نُدرك من وراء الوقوف بعرفة موقف النَّاس بين يدي خالقهم في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون؛ إلَّا من أتى الله بقلب سليم؛ لكنَّنا قد يقصر إدراكنا الحكمة من وراء رمي الجِمَار، والطَّواف حول الكعبة، والسَّعي بين الصَّفا والمروة. وعَجزُنا عن إدراك الحكمة لا يعني خُلوَّ مثل هذه الأشياء عن حكمة عالية.

وكم يجد الإنسان من نفسه توافقًا بين هواه، وما يُفرض عليه ويُكلَّف به، فإن حصل تعارض بين مَيلِ الهوى وبين التَّكليف؛ انكشف ما في النَّفس من استعداد للإيمان أو الخسران، فإن رَجَحَ ما كُلِّف به من الله على نفسه وهواه؛ فذلك هو المؤمن، وإن آثر هواه، وحَكَّم العقل على من لم يحكم عليه العقل، وفيما لا مجال للعقل فيه؛ فقد ضلَّ وغوى.

إننا ندرك أنَّ الإسلام أعلن حربًا لا هَوادة فيها على الوثنيَّة منذ اللحظة الأولى من نزول الوحي، وانقضت فترة من حياة النُّبوة غير قليلة في إرساء دعائم التَّوحيد بالأسلوب المنطقي: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39]. ولم يقبل الإسلام أية مساومة أو تمحل لإخفاء الوثنية في صورة التَّقرب إلى الله بالوسطاء، فقال -جلَّ شأنه- حاكيًا ومُنكِرًا على قوم قولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3].

ومع ما حرص عليه الإسلام من توحيد خالص، جاءت بعض تعاليم الحجِّ تختبر الإيمان. فنحن لا نعبد الله بمجرَّد الهوى، واقتناع العقل؛ إنَّما نعبده إيمانًا بأُلوهيته، ومعرفة لقدر عقولنا. فإذا أَحرمنا كان ذلك بالعقل والإيمان، وإذا طُفنا أو سَعينا نحَّينا العقل جانبًا، وقلنا: هكذا أُمرنا، ولن نُشرك بربنا أحدًا، فكان قائدنا فيما هو فوق العقول: الإيمان واليقين. والعقل المحدود لا يدرك ما وراء الحدود.

(3)

الحجُّ عبادة، وليس مجرَّد طاعة.

وشتَّان بينهما. فتنفيذ المرؤوس لأوامر رئيسه طاعة، وليس للرئيس على المرؤوس بعد التَّنفيذ شيء. أمَّا العبادة فزيادة على تنفيذ الأوامر إرهابُ جانب المعبود، وانشغال النَّفس بقبول الله بهذا العمل أو رفضه.

والَّذين يُؤدُّون هذه الفريضة أداءً آليًّا لا روح فيه، قد عذَّبوا أنفسهم من غير طائل. وربَّما يأسى البعض لتصرف بعض الحجيج من نحو السَّرقة والكذب وفُحشِ القول، إلى غير ذلك. وربَّما زَهَّد هذا التَّصرُّف بعض النَّاس في الحجِّ؛ لما يجدونه من أخلاق الحجيج. ونحن معهم، نشاركهم ذلك الأسى، ونُحمِّل تَبِعات ذلك للذين أفتوا بأنَّه يمكن إسقاط فريضة الحجِّ متى أُدِّيت ولو بمال من حرام.

لقد فرَّقنا بين الطَّاعة للقانون، والطَّاعة لله وعبادته، ولا يمكن أن يكون ما ينخدع به البشر منفذًا لدخول العبد على ربه، إنَّه يقول -جلَّ شأنه-: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]، فمن استجاب فهو الوقَّاف عند كتاب ربه، ومن لم يستجب فليذهب إلى أولئك الَّذين جعلوا أعمال الحجِّ يكفي فيها مجرَّد عمل روتيني: يلتزم فيه الحاج بحركات معيَّنة، وكلمات محدَّدة.

ومن فقه الصَّحابة: أنَّهم في طوافهم امتنعوا عن ردِّ السَّلام، وقال ابن عمر: "كنا في الطَّواف نتخيل الله بين أعيننا".

(4)

الاستطاعة في الحجِّ.

من المعلوم أنَّه لا يُكلِّف الله نفسًا إلَّا وُسعَها، وأنَّ قُدرة المكَلَّف شرط في تكليفه؛ لكنَّه نصَّ هنا على الاستطاعة؛ ولو بأيَّة وسيلة؛ لأنَّ الحجَّ يمكن للإنسان أن يعتذر عن أدائه بإبداء عجز صوريٍّ، يُخيَّل إليه أنَّه حقيقيٌّ -مثل من يعتذر عن أداء الحجِّ لأنَّه اشترى عمارة صار بعدها مدينًا-، وها هو عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- يقول: "لقد هممت أن أبعث إلى البادية لأنظر إلى من عنده بَدَنة ولم يحجَّ، فأضرب عليهم جزية، ما هم بمسلمين.. ما هم بمسلمين".

وحدُّ الاستطاعة: أن يمكنه الفعل من غير إلحاق ضرر به. فإذا أمكنه الفعل مع وجود ضرر؛ فالتَّرك أحبّ إلى الله من مثل هذا الفعل: {مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ} [النساء: 147]، وقد رأى رسول الله رجلًا يتهادى بين ولديه، فسأل عنه، فقيل: نذر أن يحجَّ ماشيًا. فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مُرُوهُ أَنْ يَرْكَبْ، وَلْيُهْدِ بَدَنَةً».

وقد وضع الله بدل: "ومن لم يحج"، قوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ}، ولهذا التعبير دلالته في توكيد وحدة تعاليم الإسلام، وأنَّ من ترك فريضة من فرائض الله فقد كفر من غير تأويل ولا صرف لظواهر كلام الشرع من غير مبرر، فإن كانت له أسهم في الإسلام بأداء بعض الأركان وترك بعض الأركان، قلنا له: لن تكون مستفيدًا بإسلامك عند الله إلَّا بإتمام كل الأركان. وإن كنَّا نأخذ بالظَّواهر في إجراء أحكام الدُّنيا؛ فذلك منهج سياسي، رسمه الإسلام حتَّى يفتح للنَّاس أبواب الفرص للدُّخول في السَّلام. والله لا تنفعه طاعة طائع، ولا تضُرُّه معصية عاص: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}.

(5)

فقه الحديث.

لقد تأخَّرت فريضة الحجِّ عن سائر الفرائض، وإن وقع خلاف في تحديد السَّنة التي فُرض فيها. فالمهم عندنا تأخُّر التَّشريع للحجِّ؛ حتَّى استقرت في أذهان النَّاس صفات الله من الوحدانية، والقدرة، والتَّنزُّه عن الحُلُول في جهة أو مكان.

وسؤال الأعرابي: هل تتكرَّر هذه الفريضة في كُلِّ عام؟ وسُكُوت النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، ثمَّ إجابته بأنَّه لو قال: نعم، لوجب. ليس معناه: أنَّ الرَّسول هو الَّذي يُشَرِّعُ للنَّاس الحجَّ في العُمرِ، أو في كُلِّ عام؛ وإنَّما معناه: أنني سألت، ولو كان الأمر على ما تسأل لأجبتك بـ"نعم"؛ لكنَّني سَكَتُّ، والسُّكُوت أمرٌ عدميّ، يقوم مقام النَّفيّ، فكان على الأعرابي أن يَكُفَّ عن السُّؤال ما دام قد سَكَت النَّبيّ؛ إذ من غير المعقول أن يُقَصِّر في البيان، وهو القائل في وضوح: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ».

(6)

الاعتبار بمن سبق.

ومنهم تؤخذ العبر، وبهم تُضرب الأمثال. ولم يهلك النَّاس كثرة أسئلة يستفسر أصحابها عن الحقّ، فهذا محمود؛ إنَّما هلك النَّاس بسؤال لا داعي له، أو قد دعا إليه العناد واللجج. وعلى كلِّ إنسان أن يلزم حدود معارفه، فقد تكون القضايا العقلية مجالًا للمناقشات والتمحيص. أمَّا القضايا الغيبيَّة فطريق معرفتها الإيمان، وسندها الوحي، وحملته هم الأنبياء، ومن أصول خاتمهم –صلوات الله وسلامه عليه-: أن ما يطلبه من النَّاس يكون به منفعة تعود عليهم بالخير، فليأخذوا من هذا الخير ما استطاعوا، وأمَّا ما ينهاهم عنه فشرٌّ يُهدِّد كيانهم. ومن أجل هذا.. لا رخصة لهم في إتيان ما نهوا عنه؛ إلَّا أن يرخص لهم ربهم في حالة تناسبهم.

وروى أبو داود عن عبد الله بن عبَّاس –رضي الله عنهما- أنَّ الأقرع بن حابس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الحج في كُلِّ سنة، أو مرَّة واحدة؟ قال: «بل مرَّة واحدة، فمن زاد فتطوُّع».

ولا حرج من الشَّارع على فعل الخير. وكلما انتفع العباد من وراء عمل زاد أجر العامل بزيادة عدد المنتفعين من عمله. وخير النَّاس أنفعهم للنَّاس.

***


([1]) أستاذ ورئيس قسم التفسير وعلوم القرآن سابقًا، بكلية أصول الدين، جامعة الأزهر-القاهرة.

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.