الحج.. مجمع علمي

لا أنسى مقامي بمنى ثلاث ليلات مع صفوة من كرام العلماء وفدوا لحج بيت الله من أقطار مختلفة، وقد بدأ التعارف تلقائيًا؛ حيث استمعتُ إلى أحدهم يناقش زميله في مسألة نحوية، وحين فرغا من الحديث، تقدمتُ إليهما، فقلت ما بدا لي فيما كان يتناقشان فيه، ثم تعارفنا، وانتقلبنا إلى جماعة يعرفها صاحباي، وكلهم أستاذ نابه، فكانت ليلة عامرةً بأطيب ذخائر العلم، وما كدنا نفترق من بعدها حتى أذَّن مؤذنُ الرحيل، وقد اتَّصل التراسل العلمي بيني وبين هؤلاء النفر على بُعد الديار، فكان موسم الحج مهدًا طاهرًا لهذا التعارف العلمي؛ إذ قطفتُ منه أشهى الثمار.

وقد سبح خاطري في رحلة خيالية طريفة؛ إذ جعلتُ أتأمل بخيالي طوائف العلماء، وقد احتشدوا حول البيت العتيق عامًا خلف عام، وتمَّ التعارف العلمي بين هؤلاء الكرام في أطهر أرض شرفها الله، وكم دارت حلبات النقاش العلمي خالصة لوجه الله، ومتوخيةً وجه الصواب دون مراوغة؛ إذ لا جدال في الحج، فكلٌّ ينشد الحقيقة محتفلًا بها أيًّا كان مصدرها.

سبح خاطري في تصور هذه المجالس منذ نشأ العلم في الإسلام، وهرع شيوخه إلى الحج خاشعين، فتقابلوا في شوق، وعرف كلَّ دارس من صاحبه بعض ما لم يكن يعلم، فنقل عنه، وتأثر به.

وكان أكثر العلماء في الزمن الغابر يؤمّون البيت في أواخِر رمضان، فلا يرجعون إلَّا في مطلع العام الجديد، وهو مدى حافل يتسعُ للنقاش، كم دُرست فيه من كُتب، وكم تُبودلت فيه من أخبار؛ بل إنَّ بعض هؤلاء الأعلام كان يؤثر أن يقضي العام كله جارًا لله في بيته، فلا يرجع إلَّا إذا حجَّ حجتين لا واحدة، وهو الغانم مغفرة من الله، وإحاطة بما لدى الزملاء من علم، ثم يرجعُ مغفور الذنب، ملئَ الوطاب من العلم، فيفوز بالسعادتين.

وقد ذكر صاحب (نفح الطيب) سجلًا وافيًا بأسماء من رحلوا إلى المشرق من المغرب، وهدفهم الأول حجُّ بيت الله الحرام، فأتاحت لهم الرحلة الربانية أن يقابلوا مشيخةً من أولي الفضل في مكة والمدينة، ثم دفعهم الظمأ إلى المعرفة أن يمرُّوا بعواصم الإسلام قبل العودة، فزاروا بغداد ودمشق والقاهرة وصنعاء، ومنهم من توغَّل إلى بلاد المشرق فزار ما وراء النهر، ورأى ما لم يكن يظن أن يراه، وسمعَ من العلم ما لم يكن يعرف له وجودًا من قبل، وسأعود في مقال آخر إلى بسط نماذج من رحلات الراحلين بعد أن أدوا فريضة الحج، وصمموا على أن يقفوا على أحوال العالم الإسلامي، فكتبوا ما عُرف فيما بعد بأدب الرحلات، ولولا الحج ما انتشر هذا الفن الأدبي على امتداده الفسيح.

وقد سجَّل التاريخ رحلات الخلفاء والملوك إلى بيت الله في موسم الحج مسهبًا مطيلًا في ذلك؛ ولكنه سجل مع ذلك لقاء العلماء للخلفاء في هذا الموسم المشهود، وهو لقاء يستوي فيه الكبير والصغير؛ إذ لا سلطان لأحد على أحدٍ في بيت الله، وتلك هي مزية الحج التي جعلت حَرم الله آمنًا، ويتخطف الناس من حوله؛ بل جعلت أعرابيًا ساذجًا يصرخ في وجه الحجَّاج بن يوسف قائلًا: كيف أهَابك، وأنا في بيت الله، وأنت عبده الخاضع لمشيئته! ويرى الحجاج أنَّ الأعرابي صادقٌ فيما قال، أو أنَّ رهبةً من جلال الموقف تغشاه فتكفَّه عن مؤاخذة مَن يتحداه، فيصيح به: انصرف بسلام.

لقد حج أبو جعفر المنصور ذات عام، فجاءته الأنباء أن علماء المسلمين يحجون هذا الموسم، وفيهم: عمرو بن عبيد، والأوزاعي، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، وأبو ذؤيب، وأبو حنيفة، وكان أبو جعفر طالب علمٍ قبلَ أن يصيرَ الأمر إلى بني العباس، وله زمالة علمية مع عمرو بن عبيد وسفيان الثوري ومالك ابن أنس، فهو يعرف هؤلاء معرفة عيان ومشاهدة؛ ولكنه يعلم مكانة الأوزاعي وأبي ذؤيب وأبي حنيفة في الفقه الإسلامي، فأحب أن يَرى هؤلاء جميعًا في غده، ورأى موسم الحج سبيلًا طبيعيًا لرؤية البعيد، ومحادثة الغريب، فطلب إلى وزيره الربيع بن يونس أن يبعث بمن يأتي بهم في الصباح، وكان له ما أراد، ولم يُرَ المنصور أكثر خشوعًا مع أحد كما رئي اليوم في مجلس هؤلاء، وقد دخلوا واحدًا بعد واحدٍ، وحادثهم في شئون السياسة التي يتَّبعها، فوجد الجواب متفقًا، وكأنهم أعدّوه في مجلس خاص، وذلك ما لم يحدث؛ وإنما أخلصت القلوبُ النصيحة فنطقت بالحق، وقد طلب المنصور من الإمام مالك أن يَجمع المسلمين على رأي واحد، في كتاب يدوِّنه، فلم يشأ أن يذعن؛ لأنَّ الفروع الفقهية تختلف في بعض اتجاهاتها، ولكل حكمٍ دليله، وأذعَن المنصور لرأي مالك؛ إذ لمس صحة وجهته، وإن لم يُعْفِه من تدوين كتاب يجمع المختار من أحاديث الأحكام، فكان الموطأ.

ومن البديهي أن يكون اجتماع هؤلاء الأئمة في مكان واحد، موضع إفادة مرجوة لطلاب العلم؛ لأنَّ المسجد الحرام منذ عهد الصحابة لم يخلُ من فقهاء يشرحون ويوجِّهون ويفتون، فإذا كان الموسم الجامع فقد اتسعت الدائرة، وتَشَافه العلماء وجهًا لوجه، وسمع الناس ما يقولون، فرجعوا إلى بلادهم يحملون الكثير من أحكام الله، ولا تكاد سيرة فقيه من فقهاء الإسلام في هذه العصور الزاهرة تخلو من رحلات متكررة لبيت الله، ولكل فقيه تلاميذه المستجيبون، ومُريدوه السائلون فالمُجابون، وبذلك كله كان الحج جامعة علم، ومدرسة إفتاء.

وهنا طريقةٌ تُقال، فقد كان بعض العلماء إذا أعياهم التأليف في مسألة علمية مُعقَّدة، رأوا في مجاورة البيت الحرام سبيلًا إلى تيسير التأليف، فعزمُوا على البقاء بمكة بعد انتهاء الموسم؛ ليفرغوا إلى ما يريدون من الكتابة مؤتنسين ببيت الله، هانئين بجواره، ويذكرون أنَّ أبا القاسم الزمخشري كان يتوقُ إلى كتابة تفسيرٍ لكتاب الله، و يحسُّ قدرًا كبيرًا من الهيبة تمنعه أن يبدأ؛ لأنَّ المقام جِدّ خطير، والكلامُ كلام الله، ولا يجرؤ على القول في تفسيره إلَّا من استوثقَ من علمه، وأمِن شطط الرأي وفتنة الهوى، وهذا ما تلبَّس الزمخشري ردحًا من الدهر، ثم رأى أن يكون جارًا لله في بيته؛ لذلك أُطْلِقَ عليه (جار الله) مدّت تَقربُ من أربع سنوات، بدأ فيها بتفسير الكشاف حتى أتمه، وكان إحساسه ببركة البيت العتيق يدفعه إلى العمل المتواصل، واثقًا من تيسير الله؛ حتى أتمه على وجهه المقروء، في مثل مُدّة خلافة أبي بكر الصديق كما سجّل ذلك، وقد تعالم الفقهاء في شتَّى بقاع العالم الإسلامي وُجود أبي القاسم الزمخشري في حرم الله، فجعلوا يُراسلونه مستفيدين، كما بعثوا برسائلهم العلمية إليه، ما بين طالب إجازة أو ملتمس فتوى، فكان الإمام مع اشتغاله بكتابة التفسير يُجيب عن كل رسالة بما يُناسب، ويذكر مترجموه في هذا الصدد أن الحافظ السلفي عالم الإسكندرية ومحدّثها بعث إليه طالبًا أن يجيزه بدراسة مؤلفاته، فلم يُجبه لفوره، ومضى الرسول دون الإجازة، فانتظر الحافظ السلفي موكب الحج القادم، وبعث إليه برسالة عاتبة، فأدركَ الزمخشري تقصيره في حقه، وكتب إليه رسالةً نادرةً رَواها ياقوت في معجمه، وابن خلكان في وفيات الأعيان، وفيها يقول: "العلم مدينة، أحدُ بابيها الدراية، والثاني الرِّواية، وأنا في كلا البابين بضاعة مزجاة، ظلي فيها أقلصُ من ظل الحصاة"، ثم أجازه فأقر عينه بما أراد، وحين أراد الرحيل إلى بلده أنشأ قصيدة يتحسر فيها على فراق البيت الحرام، وظلَّ في وطنه يلهج بذكر مكة، وما صادفَ بها من المتعة الروحية واللذة العلمية، ولما مات رثاه أحد تلاميذه بقصيدة قال فيها:

فأرض مكة تذري الدمع مُقْلتها        حزنًا لفرقة جار الله محمود

وقد لاحظتُ لدى قراءة كُتب التراجم في القرون الماضية، مثل: الدرر الكامنة لابن حجر، والضوء اللامع للسخاوي، والبدر الطالع للشوكاني، والكواكب السائرة للفزي، والريحانة للشهاب الخفاجي، وسلافة العصر لابن معصوم؛ لاحظتُ أنَّ جَمعًا كثيرًا ممَّن تَرجم لهم هؤلاء المؤلفون تُختم حياتهم بالذهاب إلى مكة، والدَّفن بها، ومعنى هذا أنَّ حركةً علميةً كبرى قامتْ في الحرم المكيّ، حين تلاقت طوائفُ العلماء من كل صوب بمكة، وأنست بالمقام الطيب لدى البيت العتيق؛ تحقيقًا لقول الله –عزّ وجلّ-: {... فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ... } [إبراهيم: 37].

ومَنْ غير العلماء أنشطُ لداعي الحرم الأمين، على أنَّ ممَّا يقطعُ كل ريب في هذه المسألة هو كتاب (المختصر من كتاب نشرْ النور والزهر في تراجم أهل مكة من القرن العاشر إلى القرن الرابع عشر)، وقد ظَهر محقَّقًا في طبعة قشيبة، أشرف عليها الأستاذان الجليلان المكيَّان: محمد سعيد العامردي، وأحمد علي، فإنَّ فهرس هذا الكتاب يحفلُ بأسماء وألقاب للشامي والمصري والمنوفي والطبري والزواوي والشيرازي والبخاري والدّهلوي والهندي واليمني والسنجاري والداغستاني والإسفرائيني والدياربكري والحبشي والإنطاكي والقازاني والسنَّاري والسندي والجاوي والتكروري والحضرمي والجبرتي والقُطبي والتونسي والاسترابادي والموري والبلخي والحموي... وما لا يندرج تحت حصر، فلله أرضٌ وسعت هؤلاء جميعًا، ولله دين رفع الفواصل بين أبنائه في شتى بقاع الأرض؛ حتى أصبح الإسلام يُغني عن البلد والنسب، ويقوم مقام الدم المترقرق في جسد واحد، وقديمًا قال القائل:

أبي الإسلام لا أب لي سواه     إذا افتخروا بقيس أو تميم

ولا أختم المقال دون أن أشير إلى سمة فاضلة من سمات زائري البيت الحرام مِنْ كِبار العلماء؛ إذ أنَّ شعور العالم البحَّاثة أنهُ في أقرب مكان من ربه، يغسلُ نفسه من أدران التَّعصُّب المذهبي والجدل الفكري، ويدفعه إلى مزيد من التفاهم المقوِّي للآصرة الإسلاميَّة، فقد اشتعلت في أوائل الثلاثينيات من هذا القرن، جذوة الخلاف بين فريق من علماء المملكة، وفريق من علماء مصر حول ما يُدعى بالتَّوسُّل، واشتطَّ بعض الذين لا يجادلون بالتي هي أحسن من الفريقين في تعبيرات قاسية تؤجج المشاعر، وفي هذه الأثناء ذهب فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ إبراهيم الجبالي –رحمه الله- عضو جماعة كبار العلماء بالأزهر الشريف، إلى مكة حاجًّا معتمرًا، ورأى من واجبه أن يُقابل أصحاب الفضيلة علماء الحرم، وأن يتفقوا جميعًا على احترام آداب البحث والمناظرة، والبُعد التَّام عمَّا يشين الحوار العلمي من أساليب التهكم والاستهزاء، ووجد الأستاذ الجبالي ترحيبًا حارًا بالفكرة أسعد نفسه، ودفعه إلى كتابة مقال بمجلة (نور الإسلام) ربيع الأول سنة 1350هـ، الموافق لسنة 1931م، يُبدي فيه ارتياحه لما لمس من اجتماع الرأي على سعة الصدر وعفَّة اللفظ لدى من تحدث معهم من علماء الحرم، وقد قال فيما قال:

"فلو أنَّ أهل النظر وقادة الرأي في المسلمين، كانوا أوسع صدرًا، وأطول صبرًا، نَظَرَ كل منهم في المسائل المختلف فيها من الناحية التي نظر إليها صاحبه، وكذلك يفعلُ صاحبهُ، فيضم كل منهما إلى علمه في المسألة عِلْمَ مُناظرة لكانَ جديرًا أن يَتقاربا في الرأي، إنْ لم يَتفقا تمامًا، وفي ذلك رأب لصدع المسلمين، وجمع لشملهم، وضم لشتاتهم".

لقد كان الجو الطاهر بالبيت الحرام، داعيًا أولي العلم إلى الوفاق، وتلك إحدى ثمار الحج، لا أختلقها اختلاقًا؛ ولكن أتحدث عنها لتكون عبرة لمن اعتبر، ومثلًا لمن تأمّل، ومعي الدليل.

***

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.