الحج المبرور

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيِّدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ورد في صحيحي البخاريِّ ومسلم عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أنَّ رسول الله سُئل: أيُّ الأعمال أفضل؟ فقال: «إِيمَانٌ بِاللهِ وَرَسُولِهِ». قال السَّائل: ثمَّ ماذا؟ قال: «ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ». قيل: ثمَّ ماذا؟ قال: «ثُمَّ حَجٌّ مَبْرُورٌ».

وقد ثبت في صحيحي البخاريِّ ومسلم، وأكثر كتب السُّنَّة المعتبرة، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ».

والحجّ المبرور: هو الَّذي وفِّيت أحكامه، ولم يخالطه شيء من الإثم.

والَّذي يستعرض أعمال الحجِّ، وأحكامه، يجدها ترجع إلى عناصر يكمل كلٌّ منها الآخر، ومدارها على أن يجدِّد المسلم حياته بالحجِّ؛ فيقطع صلته بكل مكان يعلق بها من شوائب الإثم، أو الانحراف عن طريق الله ووسائل مرضاته، ويبدأ حياته جديدة نقيَّة، بنفس راضية تقيَّة، بعد توبة نصوح يشهد الله عليها في أطهر بقاع الأرض، مخاطبًا ربَّه -عَزَّ وجلَّ- قائلًا: "لبيك اللهم لبيك"، وملتزمًا أن لا يعمل من ذلك الحين إلَّا ما يرضي الله من عمل، وأن لا يقول إلَّا ما يقرِّبه إلى ربِّه من خير وحقٍّ، وأن لا يعود إلى أهله ووطنه إلَّا وهو إنسان آخر، يُؤْثِر مرضاة الله في كلِّ ما يصدر عنه، ويكون في جانب الحقِّ في كلِّ ما يصطدم فيه الحق والباطل، ويحرص على أن يكون من أهل الخير، كلَّما دعته الظُّروف، وسنحت له الفرص لعمل الخير.

كما أنَّ المدرسة مصنعٌ يدخله غير العارفين، ثمَّ يتخرَّجون منه علماء عارفين، كذلك الحجُّ فرصة من فرص الحياة، يتعرَّض لها المسلمون بما ارتكبوا في حياتهم من هفوات، وما وقع منهم ممَّا لا يَرضى الله عنه، فيجدِّدوا توبتهم العظمى في البلد الحرام، والشَّهر الحرام، ويهتفون من أعماق قلوبهم معاهدين ربَّهم على التزام أوامره، واجتناب نواهيه، قائلين: (لبيك اللهم لبيك)، فلا ينتهون من مناسكهم إلَّا وهو على عهد مع الله -عزَّ وجلَّ- بأن يكونوا من أهل الاستقامة في حياة جديدة، قامت مناسك الحجّ حائلًا بينها وبين شوائب الماضي، فيعفو الله عمَّا سلف على قدر ندم صاحبه عمَّا فرط منه، وعلى قدر ثباته على عهده مع الله بأن يكون من أهل السَّلامة والاستقامة والتَّقوى.

إنَّ عشرات الألوف من المسلمين يقفون بين يدي الله -عزَّ وجلَّ- في عرفة، في البقعة المباركة التي وقف فيها رسول الله، وصفوة خلق الله من أصحابه الأكرمين، والتَّابعين لهم بإحسان.

وهذه الألوف التي لا تُحصى، ترفع أصواتها بالدُّعاء إلى الله الرَّحمن الرَّحيم، معلنة أنَّها أجابت دعوته، وأنَّها تعاهده -عزَّ وجلَّ- على أن تتوخى رضاه في أقوالها وأفعالها، ولن تكتفي هذه الجموع العظمى بهذا العهد العظيم مع الله؛ بل إنَّها بعد الإفاضة من عرفات إلى مزدلفة، تدفع من مزدلفة إلى منى قبل أن تطلع الشَّمس، وفي منى تُعلن مقاطعتها للشَّيطان، وترمز لهذه المقاطعة برميه عند الجمرة الكبرى، ثمَّ عند الجمرة الصُّغرى والوسطى، وجمرة العقبة في أيَّام التَّشريق، وهي الأيَّام الثَّلاثة التي بعد يوم النَّحر.

هذه المقاطعة الرَّمزيَّة للشَّيطان في كلِّ ما ينتظر أن يُسوّل به للمسلم في حياته من شرٍّ، أو إثم، يقوم بها الحجاج جميعًا بعد ذلك العهد الَّذي قطعوه لربهم كلَّما هتفوا له: (لبيك اللهم لبيك)، فتخرج نفوسهم نقيَّة طاهرة مثيبة إلى الله، مستريحة من أوزار الماضي، ومستقبلة حياة جديدة صالحة، وأيَّامًا سعيدة هنيَّئة.

هذا هو الحجُّ المبرور؛ لأنَّه يرجع بالمسلم إلى الله، ويرجع المسلم إلى سعادته التي كفلها له الإسلام، ودلَّه على طريقها، وضمن له الجنَّة إذا التزم هذا الطريق فلم يخرج عنه.

يا حُجَّاج بيت الله الحرام: إنَّ الله -عزَّ وجلَّ- قد هيَّأ لكم الفرصة الثَّمينة؛ لتجدِّدوا أنفسكم، وترجعوا إلى ربكم، وتكونوا من خيرة أبناء بلادكم وأمتكم، فتسعدوا في الدُّنيا، وتكونوا من أهل الجنَّة في الآخرة.

وسبيل ذلك.. أن تكونوا من أهل الحجِّ المبرور، ولا يكون حجُّكم مبرورًا إلَّا بالتَّوبة الصَّادقة، ومقاطعة الشَّيطان إلى الأبد وفي كلِّ شيء.

نسأل الله -عزَّ وجلَّ- أن يُتمَّ عليكم هذه النِّعمة، وأن يجعلكم من عباده الصَّالحين.

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.