الحجُّ إلى بيت الله الحرام... شعائر ومسؤوليَّات

- الإسلام هو الصَّخرة العاتية التي عرف عنها الأعداء الكثير، وهو اليوم يخيفهم ويؤرِّقهم، ويخشون أن يشعل في أبنائه نور الحياة من جديد.

- المنافع التي يشهدها المسلمون في الحجِّ ليست قاصرةً على أمور قريبة؛ بل إنَّها وراء ذلك أكبر وأشمل، إنَّها اليقظة الضَّخمة التي يولِّدها ذلك الحداء العظيم في الحجِّ: (لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك..).

كتب أحد المبشِّرين عن العقبات التي تقف في طريقهم، وتَحُول بينهم وبين الوصول إلى تضليل المسلمين، فقال: "سيظل الإسلام صخرةً عاتيةً تتحطَّمُ عليها سفن التَّبشير النَّصراني ما دام للإسلام هذه الدَّعائم الأربع:

1- القرآن.

2- والأزهر.

3- واجتماع الجمعة الأسبوعي.

4- ومؤتمر الحجّ السَّنوي".

لا أحد يستطيع أن يُنكر الفوائد العظيمة التي تعود على هذه الأمَّة من اجتماعهم في مكانٍ واحد، وقد سعوا إليه متجرِّدين من كلِّ شيء، تاركين المال والولد، والأهل والوطن.

إنَّ المسلمين من القارات الخمس يتوجَّهون نحو الكعبةِ المقدَّسة طاعةً لله، وتلبيةً لأمره، ويلتقون في هذا المكان الطَّاهر فتنشأ بينهم صلات الودِّ، وتربط بينهم معاني الأخوة والحبِّ.

فلا عجبَ إذا اعتبر المبشِّرون أنَّ هذا العمل يُشكِّل عقبةً كئودًا في طريقهم، ويَحُول بينهم وبين الهدف الخبيث الَّذي يسعَون إليه، وهو: تشكيك المسلمين في دينهم وإسلامهم؛ بل ومحاولة إخراجهم منه.

شعائر ومسؤوليات

إنَّ أعمال الحجِّ وشعائره كما فرضها الحقُّ -سبحانه وتعالى- في زمنٍ محدود، ومكان معيَّن، يتعلَّم منها المسلمون العبودية الكاملة للخالق -عزَّ وجلَّ- على مستوى الفرد والأمَّة، وما تحمله هذه الشَّعائر من تعظيمٍ لأوَّل بيتٍ وُضع للنَّاس، تهوي إليه أفئدتهم من جميع أنحاء الدُّنيا؛ إنَّما يُشعر بوَحدةِ المنبع، ووَحدة المصير والغاية.

شعائر الحجِّ تُربِّي في المسلم معاني العدالة والمساواة، والعبرة والذِّكرى، واستحضار البطولات التي قام بها الغُرِّ الميامين؛ سواء في ميدان الصَّبر والتَّحمُّل والمصابرة على المكاره، أم كان ذلك في ميادين الجهاد والهجرة.

إنَّ هذه الشَّعائر وكلّ أعمال الحجّ بما تحمله من معانٍ، وبما تهيئ من قدرة على استئناف العمل للإسلام، لتضع المسلم -الذي يبغي وجه الله، والدَّار الآخرة- أمام مسؤوليَّاته بالنِّسبة لهذا الدِّين.

فعلى مستوى الفرد لا بد أن تتحرك إرادته، ويشعر بحقٍّ أنَّه اللبنة الأولى في البناء، يجب عليه أن يُصلح نفسه، ثمَّ يدعو غيره إلى ما آمن به. وإنَّ تاريخ الإسلام يقول لنا: إنَّ بداية هذا الطريق كانت فردًا آمن، ثمَّ ضحَّى في سبيل ما آمن به، وكانت حياته صورة صادقة لما يدعو إليه، لم يأبه لعادات، ولم يرضخ لعرف، ولم ينهزم أمام الشَّهوات، ولم يشرك مع الله أحدًا.

إنَّه الفرد الَّذي تلقَّى الإسلام دعوة عمل وجهاد؛ حتَّى كان شعاره: ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: 105].

ويقول الشَّاعر المسلم:

لَمْ يشربوا الدِّينَ  أَوْرَادًا  وَمِسْبَحَةً

بَلْ أشربوا الدِّينَ  مِحْرَابًا  وَمَيْدَانَا

دَفَـعُوا ضَرِيبَتَهُم للدِينِ مِنْ دَمِّهِم

وَالنَّاسُ تَزْعُمُ نَصْرَ الدِّينِ مَجَّانًا

هذا على مستوى الفرد. أمَّا على مستوى الأمَّة؛ فلا بد من أن يمتدَّ البصر، وتتفتَّح القلوب، ويوجد الوعي؛ لنبصر مصدر العزَّة، ولنرى النُّور من جديد، ولتؤدِّي الأمَّة دورها من جديد.

لا بد من الإدراكِ الكامل حتَّى نعي ما يدبِّره أعداء الإسلام للإسلام، وأن نصغي إلى صوت النَّذير هنا وهناك؛ لتدرك الأمَّة المسلمة أيَّ دور ينتظرها -كلّ ذلك على أساس أنَّه لا يصلح آخر هذه الأمة إلَّا بما صلح به أوَّلها-، وأنَّ الله- جلَّ جلاله- لا يغيِّر ما بقومٍ حتَّى يغيِّروا ما بأنفسهم.

ومجرَّد الشَّك في قدرةِ الإسلام على إيجاد المجتمع الفاضل، والمدنية الرَّاقية، تقف في طريقهم، وتَحُول بينهم وبين العدالة الاجتماعية؛ إنَّما هو استسلام لما يقوله أعداء هذا الدِّين، وما تردِّده أجهزتهم من أجل تثبيت هذا المعنى في داخل المسلمين. إنَّهم ينفقون آلاف الملايين على بثِّ رُوح الاستسلام للواقع المهين البائس الَّذي يعيشه المسلمون.

إنَّ الإسلامَ هو الصَّخرة العاتية التي عرف عنها الأعداء -بعد دراسة مستفيضة- الكثير، وأدركوا مدى صلاحيتها للبقاء، في شريعته الخالدة، ونظامه الدَّقيق، وعقيدته السَّمحة.

وهو اليوم يخيفهم ويؤرِّقهم، ويخشون أن يشعل في أبنائه نور الحياة من جديد، عندئذٍ تذوب كلّ الأوهام والأباطيل التي صنعوها، ويزول الرُّكام من الطَّريق. هذه هي الطَّامة الكبرى في نظر أعداء الإسلام.

إنَّ الفرد -مهما كانت قوته- ضعيف بنفسه، قويُّ بأخيه، ويد الله مع الجماعة.

الأمَّة الواحدة

وفي الحجِّ نرى معنى الأمَّة الواحدة واضحًا كالشَّمس، وحدتها في المشاعر، ووحدتها في الشَّعائر، ووحدتها في الهدف، ووحدتها في العمل، ووحدتها في القول، لا عنصرية، ولا عصبية: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]، إنَّما هم جميعًا مسلمون مؤمنون برب واحد، يطوفون حول بيت واحد، ويقرءون كتابًا واحدًا، ويتبعون رسولًا واحدًا.. فأيُّ وحدة أعمق من هذه؟!

إنَّ شعائرَ الحجِّ جديرة بأن توقظ المسلمين من نومهم لكي يعتزُّوا بإسلامهم، ويُسخِّروا ما أعطاهم الله من قوة وجاه في سبيل هذا الدِّين العظيم.

وإنَّ الحجَّ لو أدركنا معناه لخرجنا من المجالِ النَّظري الضَّيِّق إلى الميدان العمليّ الفسيح للإسلام؛ حتَّى ننجو من عواقب الوصول إلى تضليل المسلمين، ولنتذكر المسئوليَّة الكبرى أمام أحكم الحاكمين في ساعات الهول التي قال الله تعالى عنها: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [يس: 65]، ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً﴾ [الفرقان: 27]، ويقول الحقُّ -سبحانه وتعالى-: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ﴾ [الحج: 28]، ويقول جلَّ جلاله: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: 29].

الخلاص من العبودية

والحقُّ أنَّ حكمة الله البالغة تأبى أن تكون المنافع التي يشهدها المسلمون في الحجِّ قاصرة على أمور قريبة؛ بل إنها وراء ذلك أكبر وأشمل، إنَّها اليقظة الضَّخمة التي يولدها ذلك الحداء العظيم في الحجِّ: (لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك..).

هي العتق والخلاص من كلّ عبودية لغير الله -عزَّ وجلَّ-، كما أنَّ حكمة الله تأبى أن تكون إزالة التفث قاصرة على إزالة ما عَلِق بالجسم من أدران وأوساخ؛ إنَّما هو إلى جانب هذا المعنى إزالة العقبات والرّكام الَّذي يقف في طريق الحقِّ أيضًا. يقول القرطبي في تفسيره: ﴿مَنَافِعَ لَهُمْ﴾، أي: المناسك كعرفات، والمشعر الحرام. وقيل: المغفرة. وقيل: التجارة. وقيل: هو عموم، أي: ليحضروا منافع لهم، أي: ما يرضي الله تعالى من أمر الدنيا والآخرة.

***

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.