الحج تدريب على القيم العليا

ما يكاد رمضان تودِّع أيامه ولياليه المسلمين، ويقبل العيد تعبيرًا عن الفرحة بتوفيق الله لعباده المؤمنين أن قاموا بواجباتهم خلال أيَّام الشَّهر الكريم ولياليه؛ حتَّى يستبدَّ الشَّوق والحنين بقلوب الملايين من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؛ تطلُّعًا إلى زيارة البيت الحرام، وتلهُّفًا إلى لقائه، وحطِّ عصا التِّرحال في رحابه، يروون غلَّة الشَّوق إلى البيت المعظَّم، الَّذي جعله الله مثابة للنَّاس وأمنًا، ويستشعرون الطُّمأنينة والأمان في تلك الرِّحاب التي شرَّفها الله؛ بخطوات أبي الأنبياء إبراهيم وابنه إسماعيل –عليهما السلام-، وبنشأة خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، وكفاحه وتضحياته في تلك البقاع المقدَّسة، وجوار الكعبة المشرَّفة، التي رفع أبو الأنبياء وابنه إسماعيل قواعدها، ودعوا الله أن يجعل من ذريتهما أُمَّة مسلمة، وأن يبعث فيها رسولًا، وأن يجعل قلوب النَّاس تهفو إلى تلك البقاع الكريمة على الله سبحانه.

كما سجَّل كلّ ذلك القرآن الكريم في سورتي البقرة وإبراهيم؛ حيث يقول في سورة البقرة: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) } [البقرة: 127-129].

وفي سورة إبراهيم؛ حيث يقول أبو الأنبياء داعيًا ربَّه أن يجعل البلد آمنًا، ويرزق أهله من الثمرات، ويجعل الأفئدة تهفو إلى تلك البقاع المطهَّرة: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) } [إبراهيم: 35-37].

وليس عجبًا أن يشتدَّ الشَّوق إلى البيت الحرام في قلوب المؤمنين كلَّما بدأت أشهر الحجِّ؛ لأنَّ في ذلك استجابة لدعاء أبي الأنبياء إبراهيم –عليه السلام-، فهذا الشَّوق، وذلك الحنين الَّذي يعتلج في قلوب الملايين كلَّما أقبلت أشهر الحجِّ رجاء أن يكتب الله لهم زيارة بيته المحرم، وحطّ الرِّحال في جنباته، الَّذين نرى آثارهم في الحركة الدَّائبة، التي تسوق أصحاب هذه القلوب إلى أُمِّ القرى؛ إنَّما هو ترجمة واقعية عن تحقيق الله سبحانه لدعوة أبي الأنبياء إبراهيم –عليه السَّلام-.

ومعلوم أنَّ القلوب تتطلَّع إلى الأماكن ذات الحدائق، والمروج، والأشجار، والثِّمار، والنَّسمات العليلة المنعشة، تنشد الرَّاحة، وتهفو إلى جمال الطَّبيعة، وترى فيها آثار قدرة الله في الزَّرع، والضَّرع، والماء، والنِّعمة، والرَّخاء؛ ولكن أن تهفو القلوب إلى مكان لا زرع فيه، ولا ماء، ولا حدائق، ولا أفياء؛ فهذه هي المعجزة الإلهية الكبرى، والدَّليل العمليّ على أنَّ القلوب بيد الله يصرِّفها كيف يشاء.

ولا شكَّ أنَّ المسلم حينما يسعد بالتَّواجد في هذا الجو المعبَّق بروائح النُّبوَّات، وإرث الأنبياء، يجد من معاني السُّموِّ الرُّوحيّ، والصَّفاء النَّفسيّ ما يجعله يشعر أنَّه قد انطلق إلى عالم آخر غير الَّذي كان ينقلب فيه، في ذلك العالم الجديد يحس بأنَّ آفاق السَّماء تفتح له أبوابها، وأنَّ رحمة الله منه قريب، وأنَّه قد ألقى بأثقال الحياة جانبًا، فيشرق النُّور في قلبه، ويسبح بمشاعره وأحاسيسه في جوٍّ من الصَّفاء، والنَّقاء، والضِّياء، والشَّفافية، لا يُدرك آثارها الطَّيبة إلَّا من عاش تلك التَّجربة، ومنحه الله القبول.

وتشرف الأمور بمقاصدها، وسموّ أهدافها، وكلّ عمل أو سعي أو قول يعود على الأفراد والجماعات بالنَّفع والرَّخاء، والسموّ الخلقيّ، والصَّفاء النَّفسيّ يكتسب عند الأمم والشُّعوب احترامًا وتقديرًا ومكانة عليا، وتزداد قيمة هذه النَّتائج الطَّيبة حينما ترتبط بمعنى ديني، وتكون استجابة لأمر إلهي، يرقى بالإنسانية ومشاعرها وأحاسيسها إلى درجة تجعل الفرد يستشعر حقوق الآخرين عليه، فرضًا لازمًا لا يمكن الفكاك منه، وواجباته نحو الجماعة أمرًا يجري بها امتزاج الأجسام بالأرواح، عند ذلك تهون التَّضحية، وتعلو قيمة الإيثار، ومصلحة الجماعة، وتتوارى نزعات النَّفس وأهواؤها، ليحلَّ محلُّها الحقّ والواجب، ومسئولية كلّ فرد نحو من يخالطهم ويعيش معهم، فلا ترى في الحياة إلَا المعنى الجميل، والمسعى النَّبيل، ومكارم الأخلاق، والحجّ وسيلة لتعويد اللسان على العفَّة، والتزام الاستقامة في السلوك، وأخذ النَّفس بمعالي الأمور، والتَّرفع عن سفسافها، والتَّمرين على الصَّبر على الشَّدائد، وتحمُّل المشاق، وتطهير القلب من شهوات الدُّنيا ومغرياتها، رغبة في القرب من الله، والتَّعرض لرضوانه؛ لأنَّه –جلَّ وعلا- يقول: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197].

والنَّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»( ).

وقد أتاح الله هذه الفريضة كلَّ عام؛ لتهيئ للمسلم تلك الفرصة التي يعوِّد فيها لسانه على العفَّة، وخلقه على السموِّ، وقلبه على الصَّفاء والنَّقاء؛ حتَّى يصير ذلك له سجيَّة وطبيعة، فتعتاد النَّفس الإنسانية على هذا النَّمط العالي من السُّلوك الإنساني الَّذي ترقى به الأمم، وتأخذ المجتمعات بأسباب التَّقدُّم ومعالي الأمور؛ حتَّى تنال رضى الله ومحبته؛ لأنَّ الله سبحانه يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها.

والحاج الَّذي يعدُّ نفسه لهذه الرِّحلة المقدَّسة مضحِّيًا بالجهد، والوقت، والرَّاحة، والأُنس بالأهل والأولاد، مُستهينًا بالمتاعب والمصاعب والمشقات، التي لم يألفها من قبل؛ إنَّما يفعل ذلك راجيًا ما عند الله من ثواب جزيل، وعيش رخيّ في الدُّنيا والآخرة.

وحينما يقدم الإنسان على التَّضحية بالمال والرَّاحة والوقت في سبيل استجلاب رضى الله –عزَّ وجلَّ-؛ إنَّما يعوِّد نفسه على خصال الخير، ويروِّضها على استعمال المال فيما يعود نفعه عليه وعلى إخوانه المسلمين؛ لأنَّ هذه الرِّحلة التي يقصد بها وجه الله تُقَوِّي في نفسه الإحساس بالأخوة، والشُّعور بالوَحدة، والانتماء إلى الجماعة، وارتباط مصيره بمصيرهم، فإن تعرض لموقف يحتاج إلى البذل قدَّم ما في يديه راضيًا مطمئنًا، وإن شارك مجموعة في سفر أو إقامة نما في وجدانه الإحساس بالمصير المشترك، والانتماء إلى الجماعة، فيقدِّم العون لمن يحتاجه، ويسارع بالمساعدة لمن يقع في شدَّة، ويعلم أن ما بيده غير دائم؛ وإنَّما يدوم أثره الطَّيب، وذكره الحسن حينما ينفقه في مرضاة الله، ومصالح عباده، فإنَّ ما عند الله لا ينفد: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 96].

وخير النَّاس أنفعهم للنَّاس.

وإذا ما عاد الحاج من رحلة الحجّ، وقد اكتسب طهارة القلب، وعفَّة اللسان، وصيانة الجوارح عن الوقوع فيما يغضب الله سبحانه، واستقامة السلوك، وسموّ الأخلاق، والتَّزوُّد بالتَّقوى، والقُرب من الله سبحانه، إذا ما عاد بهذه الحصيلة الوفيرة من القيم والأخلاق، ومراقبة الله في السِّر والعلن، فقد عاد بالخير الكثير، والنِّعمة السَّابغة، ويكون ممن ظفروا بالحجِّ المبرور الذي ثوابه الجنَّة.

والحجُّ المبرور هو الَّذي لم يخالطه إثم، ولم تشب نفقاته شائبة.

***

التعليقات


`

اتصل بنا

الفرع الرئيسي

السعودية - الرياض

info@daleelalmasjed.com

رؤيتنا : إمام مسجد فاعل ومؤثر

رسالتنا: نقدم برامج تربوية تعيد للمسجد دوره الحقيقي وتسهم في رفع أداء أئمة المساجد حول العالم وتطويرهم ليقوموا بدورهم الريادي في تعليم الناس ودعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة وفق خطة منهجية وأساليب مبتكرة.